الفصل الأول الفلسفة والدين والعلم | فلسفه أولى ثانوي

الفصل الأول الفلسفة والدين والعلم

يتناول هذا الدرس العلاقة بين ثلاثة من أهم مجالات المعرفة الإنسانية التي سعى الإنسان من خلالها إلى فهم نفسه والعالم من حوله، وهي: الفلسفة، والدين، والعلم.

سنتعرف على طبيعة كل مجال، وأوجه الاتفاق والاختلاف بينها، وكيف أن هذه المجالات ليست في صراع دائم، بل يمكن أن تتكامل لتمنح الإنسان رؤية أعمق وأشمل للحقيقة والوجود.

العلاقة بين الفلسفة والدين

لا يوجد تعارض جوهري بين الفلسفة الحقيقية والدين الحق، فكلاهما يبحث عن الحقيقة ويسعى لفهم العالم. الدين هو مجموعة الحقائق الإلهية التي أوحى بها الله لأنبيائه، والفلسفة هي الجهد العقلي البشري لفهم هذه الحقائق وفهم طبيعة الوجود.

نقاط الاتفاق بين الفلسفة والدين

تتفق الفلسفة والدين في الهدف النهائي، وهو "معرفة صانع العالم" وتحقيق السعادة للإنسان.

الدين الإسلامي، على سبيل المثال، حث في مواضع كثيرة في القرآن الكريم على "إعمال العقل" والتأمل في الكون، وهو جوهر الفلسفة. يقول تعالى: ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس: ١٠١].

وقد حاول كثير من الفلاسفة (مثل الكندي في الإسلام، وتوما الإكويني في المسيحية) التوفيق بين الفلسفة والدين، مؤكدين أنهما مصدران للمعرفة يكمل كل منهما الآخر. ولعل أشهر من عبر عن هذه العلاقة هو الفيلسوف "ابن رشد" حين قال: "إن الحكمة (الفلسفة) هي صاحبة الشريعة (الدين) والأخت الرضيعة لها"، و "الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له".

أوجه الاختلاف بين الفلسفة والدين

على الرغم من اتفاقهما في الغاية، إلا أن الفلسفة والدين يختلفان في "الموضوع" الذي يتناولانه و "المنهج" الذي يتبعانه للوصول إلى الحقيقة.

الاختلاف من حيث الموضوع

الفلسفة: تهتم بدراسة قضايا إنسانية يمكن للعقل البشري الخوض فيها وإدراكها (مثل قضايا المعرفة، الجمال، الأخلاق، السياسة).

الدين: يركز حول علاقة الإنسان بالله وعلاقته بالعالم، ويهتم بالحقائق الإلهية المطلقة التي تأتي عن طريق الوحي، والتي قد تكون فوق مستوى الإدراك الحسي المباشر.

الاختلاف من حيث المنهج (الطريقة)

الفلسفة: تقوم على ما يقرره "العقل" البشري. منهجها هو "التأمل العقلي" والتحليل المنطقي والحوار، وهي تقبل الشك وتعتمد على الإقناع القائم على الأدلة العقلية.

الدين: يقوم على "الإيمان" و "التسليم" بالحقائق المنزلة من الله عن طريق الوحي. منهجه هو الإيمان بالكتب المقدسة والأنبياء، ويؤكد على اليقين والثقة في المصدر الإلهي.

العلاقة بين الفلسفة والعلم

كانت الفلسفة في الماضي تُعرف بـ "أم العلوم"، حيث كانت تشمل تحت مظلتها كل المعارف الإنسانية من رياضيات وطبيعة وفلك وغيرها. وكان الفيلسوف عالماً موسوعياً (مثل أرسطو).

استقلال العلوم عن الفلسفة

مع تطور المناهج التجريبية القائمة على الملاحظة والتجربة في العصر الحديث، بدأت العلوم المختلفة تستقل عن الفلسفة تباعاً، حيث أصبح لكل علم موضوعه ومنهجه الخاص.

لكن هذا الاستقلال لا يعني الانفصال التام، فالعلاقة بين الفلسفة والعلم ما زالت قوية وضرورية.

أوجه الاختلاف بين الفلسفة والعلم

يكمن الاختلاف الرئيسي بين الفلسفة والعلم في "الموضوع" الذي يدرسه كل منهما، و "المنهج" الذي يتبعه، و "الغاية" التي يسعى إليها.

الاختلاف من حيث الموضوع

العلم: موضوعه "جزئي ومادي وحسي". يدرس ظواهر محددة ومادية يمكن ملاحظتها وقياسها (مثل دراسة علم النبات لنمو النباتات، أو دراسة الفيزياء لحركة الأجسام).

الفلسفة: موضوعها "كلي ومعنوي ومجرد". تدرس الوجود ككل، وتبحث في قضايا مجردة لا يمكن إخضاعها للتجربة (مثل أصل الوجود، ومعنى العدالة، وماهية الجمال).

الاختلاف من حيث المنهج

العلم: منهجه "حسي تجريبي". يعتمد على "الملاحظة" و "الفرضيات" و "التجربة" للوصول إلى قوانين علمية تفسر الظواهر.

الفلسفة: منهجها "عقلي تأملي تحليلي". تعتمد على "التأمل العقلي" والتحليل المنطقي للأفكار والمفاهيم للوصول إلى الحقيقة.

الاختلاف من حيث الغاية (الهدف)

العلم: غايته الوصول إلى "العلل القريبة" (الأسباب المباشرة) للظواهر. فالعلم يفسر "كيف" تحدث الأشياء (مثال: كيف ينمو النبات بوجود الماء والضوء).

الفلسفة: غايتها الوصول إلى "العلل البعيدة" (الأسباب النهائية والمبادئ الأولى). فالفلسفة تبحث في "لماذا" تحدث الأشياء (مثال: لماذا يوجد نمو من الأساس؟ وما هي طبيعة الحياة؟).

التكامل بين الفلسفة والعلم

العلاقة بين الفلسفة والعلم ليست علاقة خصومة أو انفصال، بل هي علاقة "تكامل". فكل طرف يكمل الآخر ويقدم له ما ينقصه.

كيف يكمل كل منهما الآخر؟

يشترك كلاهما في هدف "الكشف عن الحقيقة". العلم يكشف عن حقائق الوجود المادي، والفلسفة تبحث في القضايا المعنوية والميتافيزيقية.

العلم يقدم للفلسفة المادة الخام التي تتأمل فيها، والفلسفة تقدم للعلم المبادئ والأسس التي ينطلق منها.

أمثلة على التكامل:

  • الثورة العلمية في مجال الطب (مثل زراعة الأعضاء والتلقيح الصناعي) فتحت الباب أمام "الفلسفة" لمناقشة الإشكاليات الأخلاقية والقانونية لهذه الإنجازات (وهو ما يُعرف بفلسفة العلم أو البيوتيقا).
  • كثير من العلماء الكبار (مثل ألكسندر كويري) كانوا فلاسفة أيضاً، واستندوا إلى أفكار ميتافيزيقية لبناء نظرياتهم العلمية.
  • الفيلسوف "ديكارت" اعتمد على ما توصل إليه العالم "جاليليو" من اكتشافات علمية ليبني فلسفته.