بحث قانوني عن زواج القاصرات في مصر

زواج القاصرات في مصر

يتناول هذا البحث إشكالية زواج القاصرات في مصر، ويسلط الضوء على الفجوة التشريعية التي أحدثها القانون رقم 126 لسنة 2008. فعلى الرغم من أن القانون حظر توثيق الزواج لمن هم دون 18 عاماً، إلا أنه لم يُجرّم فعل الزواج نفسه، مما دفع الظاهرة إلى إطار "عرفي" غير رسمي. يستعرض البحث كيف خلق هذا القصور جيلاً من الضحايا بلا حقوق قانونية، ويحلل الآثار الاجتماعية والقانونية لهذه الفجوة، ويقدم رؤية لمعالجة تشريعية حاسمة.

نوع البحث: جنائي التاريخ: 10 أكتوبر 2025
صورة المحامي

في قلب النسيج الاجتماعي المصري، تتوارى ممارسةٌ قديمةٌ قدم التقاليد، لكنها لا تزال تلقي بظلالها القاتمة على حاضر ومستقبل آلاف الفتيات.
        
            إنها ظاهرة زواج القاصرات، التي لم تعد مجرد إرثٍ ثقافي، بل تحولت إلى أزمة قانونية وحقوقية معقدة. تكشف الإحصاءات الرسمية عن واقع مقلق؛
            
            إذ يُعقد في مصر سنوياً ما يقارب 117 ألف حالة زواج لأفراد دون سن الثامنة عشرة، وهي زيجات تتم خارج الإطار الرسمي للدولة، بلا أوراق ثبوتية، لتمثل بذلك نسبة صادمة من إجمالي حالات الزواج في البلاد. هذه الأرقام لا تروي القصة كاملة، فالقصص الحقيقية تكمن خلف جدران الصمت،           
            في شهادات فتيات سُلبت طفولتهن بموجب عقدٍ زُوِّرَت فيه معاني الرضا والأهلية. تقول "أمل"، إحدى ضحايا هذه الممارسة في مصر: 
            "كان زوجي حاد الطباع سريع الغضب، يضربني باستمرار، حتى أنه كسر أحد ضلوعي. وكنت أنا عديمة الحيلة عاجزة وأتعرض للإهانة والسباب بألفاظ نابية، وبعد أربعة أشهر صرت حاملًا".




            هذه الشهادة ليست استثناءً، بل هي انعكاس لواقع العنف الجسدي والنفسي الذي يُشرعنه هذا الزواج، محولاً إياه إلى "اغتصاب مقنن" كما يصفه العديد من الخبراء. 
يطرح هذا البحث إشكالية مركزية مفادها أنه على الرغم من أن المشرّع المصري قد اتخذ خطوة تقدمية هامة بإصدار القانون رقم 126 لسنة 2008،

الذي حظر توثيق أو تسجيل عقود الزواج لمن هم دون الثامنة عشرة من العمر، إلا أن هذه الخطوة، على أهميتها، خلقت فجوة تشريعية خطيرة. فمن خلال التركيز على الإجراء الإداري للتوثيق،

أغفل القانون تجريم فعل الزواج نفسه بشكل صريح وقاطع. هذا الإغفال لم يقضِ على الظاهرة،
بل دفعها إلى الظل، مشجعاً على ازدهار نظام موازٍ من الزيجات العرفية التي تتحايل على سلطة الدولة، 

وتنتهك الحقوق الدستورية للطفل، وتخلق جيلاً من النساء والأطفال يعيشون في فراغ قانوني، محرومين من أبسط حقوقهم في الهوية والرعاية والتعليم. 
تسعى هذه الدراسة إلى تشريح هذه الفجوة التشريعية، وتتبع آثارها المدمرة على الفرد والمجتمع، وصولاً إلى تقديم رؤية متكاملة لحل قانوني ومجتمعي حاسم.

المبحث الأول: الجذور التاريخية والمجتمعية

لم تكن ظاهرة زواج القاصرات في مصر وليدة الصدفة أو نتاج ظرف طارئ، بل هي ممارسة ذات جذور عميقة تضرب في تربة المجتمع المصري، لا سيما في المناطق الريفية وصعيد مصر، حيث تتشابك العوامل الاقتصادية مع الموروثات الثقافية لتخلق بيئة خصبة لاستمرارها. إن فهم هذه الظاهرة يتطلب تفكيك شبكة معقدة من الدوافع التي تتجاوز مجرد قرار فردي، لتصبح نتاجاً لمنظومة مجتمعية متكاملة. 
           
           
           
           
يمثل العامل الاقتصادي المحرك الأكثر إلحاحاً لهذه الظاهرة. ففي المجتمعات التي تعاني من الفقر المدقع، وانخفاض مستويات الدخل، وارتفاع أعداد أفراد الأسرة، يُنظر إلى الفتاة في كثير من الأحيان على أنها عبء اقتصادي. يصبح تزويجها في سن مبكرة وسيلة للتخفيف من هذا العبء، أو كما يعبر عنه الأهالي بعبارة "هم وينزاح". يتجاوز الأمر ذلك، ليصبح المهر الذي يُدفع للأسرة مصدراً للدخل، مما يحول الفتاة من فرد في الأسرة إلى أصل مالي يمكن مقايضته. وقد يصل الأمر في بعض الحالات إلى ما يشبه الاتجار بالبشر، حيث تُزوج الفتيات الصغيرات لأزواج أثرياء، مصريين أو عرب، مقابل مبالغ مالية كبيرة، في زيجات لا تدوم طويلاً. 




على الجانب الآخر، تتضافر مع الفقر مجموعة من العادات والتقاليد المتجذرة التي توفر الغطاء الأخلاقي والاجتماعي لهذه الممارسة. تنتشر في العديد من المجتمعات الريفية مفاهيم مثل "سترة البنت"، والتي تعني أن الزواج المبكر هو الوسيلة المثلى لحماية شرف الفتاة وصون سمعة العائلة. هذا المفهوم، الذي يبدو ظاهرياً كآلية حماية، هو في حقيقته آلية سيطرة أبوية على جسد المرأة وحياتها،

حيث يُربط شرف العائلة بأكملها بسلوك الأنثى، مما يجعل الزواج المبكر بمثابة "حصانة" لها من أي انحراف متوقع. إن وصول "عريس مناسب" يصبح فرصة لا يمكن تفويتها، بغض النظر عن عمر الفتاة أو مدى استعدادها النفسي والجسدي للزواج. 
إن هذه المحركات لا تعمل بمعزل عن بعضها البعض، بل تتشابك في حلقة مفرغة تغذي نفسها بنفسها. تبدأ الحلقة بالفقر الذي يدفع الأسر إلى عدم إعطاء الأولوية لتعليم الإناث،

باعتباره استثماراً غير مجدٍ مقارنة بالزواج. هذا التسرب من التعليم يحد من وعي الفتاة وقدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة ويجعل خياراتها المستقبلية محدودة للغاية، مما يجعل الزواج المبكر يبدو وكأنه الخيار الوحيد المتاح أو "المناسب". 

بعد ذلك، يتم تبرير هذا القرار باستخدام الموروثات الثقافية والدينية مثل "سترة البنت"، وهي مفاهيم ترسخت تاريخياً في بيئات تتسم بانخفاض مستويات التعليم والهشاشة الاقتصادية. وعندما تتزوج الفتاة مبكراً، فإنها غالباً ما تنجب أطفالاً في سن مبكرة، وتصبح هي نفسها غير متعلمة ومعتمدة اقتصادياً، مما يزيد من احتمالية أن تقوم بتزويج بناتها في سن مبكرة أيضاً، معيدةً إنتاج نفس الظروف التي أدت إلى زواجها. وهكذا، يصبح "الحل" المزعوم للمشكلة (الزواج المبكر) هو السبب الجذري لاستمرارها عبر الأجيال.
                     
               
  • دور التعليم والأمية
  •            
                     
توجد علاقة عكسية واضحة وموثقة بين مستوى تعليم الفتاة واحتمالية تعرضها للزواج المبكر. فكلما زادت سنوات تعليم الفتاة، انخفضت فرص تزويجها قبل بلوغ سن الرشد. ويُعد التسرب من التعليم أحد أهم المؤشرات التي تنبئ بخطر الزواج المبكر. ففي المجتمعات التي لا تُولي أهمية لتعليم الإناث، يُنظر إلى وصول الفتاة إلى مرحلة البلوغ على أنه نهاية مسارها الطبيعي نحو الزواج، وليس بداية لمرحلة جديدة من التعليم والتطور الشخصي. إن غياب الاستثمار في تعليم الفتيات لا يحرمهن من المعرفة والمهارات فحسب، بل يسلبهن أيضاً القدرة على التفاوض حول مستقبلهن، ويجعلهن أكثر عرضة للضغوط الأسرية والمجتمعية التي تدفع بهن نحو زواج لم يخترنه. 

المبحث الثاني: المسار القانوني لمواجهة زواج القاصرات

لم تكن مواجهة زواج القاصرات في مصر وليدة اللحظة، بل مرت بمسار تشريعي متدرج يعكس تطور الوعي المجتمعي والحقوقي بهذه القضية. وقد شهد هذا المسار تحولات جوهرية، أبرزها الانتقال من موقف قانوني سلبي إلى تدخل تشريعي أكثر إيجابية، وإن كان غير مكتمل.

                     
               
  • المشهد القانوني قبل عام 2008
  •            
                     
قبل صدور التعديلات الحاسمة في عام 2008، كان الإطار القانوني المنظم لسن الزواج يتسم بالغموض وعدم الفعالية. فبموجب المادة 99 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، والمعدلة لاحقاً بالقانون رقم 1 لسنة 2000 بشأن تنظيم بعض أوضاع وإجراءات التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية، كان النص القانوني ينص على أنه "لا تقبل الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج إذا كانت سن الزوجة تقل عن ستة عشر سنة ميلادية، أو كان سن الزوج يقل عن ثمانية عشر سنة ميلادية وقت رفع الدعوى". 
           
            إن التحليل الدقيق لهذا النص يكشف عن قصور جوهري. فالمشرّع لم يقم بتحريم أو تجريم أو إبطال عقد الزواج الذي يتم دون السن المحددة. بل اكتفى بجعل العقد غير قابل للتقاضي أمامه. بمعنى آخر، كان الزواج صحيحاً من الناحية الشرعية في نظر المجتمع، ومنتجاً لآثاره، لكنه كان يفتقر إلى الحماية القضائية. فإذا نشأ نزاع بين الزوجين، كطلب نفقة أو إثبات نسب، كانت المحكمة تمتنع عن سماع الدعوى. هذا الوضع خلق حالة من الفوضى القانونية، حيث كانت الزيجات تتم فعلياً، لكن حقوق الزوجة القاصر وأطفالها كانت معلقة في فراغ، لا يحميها القانون ولا يعترف بها القضاء.
                     
               
  • القانون رقم 126 لسنة 2008 (قانون الطفل)
  •            
                     
شكل عام 2008 نقطة تحول فارقة في المسار التشريعي لمواجهة زواج القاصرات. فاستجابةً للبيانات المقلقة حول ارتفاع معدلات الطلاق والفشل الأسري بين المتزوجين في سن مبكرة، وتماشياً مع الالتزامات الدولية لمصر بموجب اتفاقية حقوق الطفل التي وقعت عليها عام 1990، والتي تعرف الطفل بأنه كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة، تحرك المشرّع المصري بشكل حاسم. 
           
           
           صدر القانون رقم 126 لسنة 2008، المعروف بقانون الطفل، والذي أجرى تعديلاً محورياً على قانون الأحوال المدنية رقم 143 لسنة 1994. تمثلت أهمية هذا التعديل في إضافة المادة 31 مكرر، التي نصت على أنه: "لا يجوز توثيق عقد زواج لمن لم يبلغ من الجنسين ثماني عشرة سنة ميلادية كاملة". وقد تم تعزيز هذا النص بقرار من وزير العدل حمل رقم 6927 لسنة 2008، والذي أكد على حظر زواج من لم يبلغ سن الثامنة عشرة وقت العقد. 
           
           
           إن جوهر التغيير الذي أحدثه هذا القانون يكمن في نقل المواجهة من ساحة القضاء (عدم سماع الدعاوى) إلى ساحة الإدارة والتوثيق الرسمي (حظر التوثيق). لم يعد الأمر متعلقاً بما إذا كانت المحكمة ستقبل الدعوى أم لا، بل أصبح متعلقاً بمنع إضفاء الصفة الرسمية على الزواج من الأساس. وبهذا، أصبح أي مأذون أو موثق يقوم بتسجيل عقد زواج لأحد طرفيه دون سن 18 عاماً مرتكباً لمخالفة قانونية تعرضه للمساءلة. 
                   
               
  • دستور 2014
  •            
         
جاء دستور عام 2014 ليرسخ هذا التوجه ويوفر له غطاءً دستورياً صلباً. فقد نصت المادة (80) من الدستور بشكل قاطع على أن: "يُعد طفلاً كل من لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره... وتلتزم الدولة برعاية الطفل وحمايته من جميع أشكال العنف والإساءة وسوء المعاملة والاستغلال الجنسي والتجاري". هذا النص الدستوري لم يترك مجالاً للشك أو التأويل، فقد حسم تعريف "الطفل" في النظام القانوني المصري، وألزم الدولة بواجب حمايته. وبذلك، أصبح زواج أي شخص دون سن 18 عاماً ليس مجرد مخالفة لقانون الطفل، بل هو انتهاك مباشر لنص دستوري صريح، وشكل من أشكال الاستغلال التي تعهدت الدولة بمكافحتها. 
         
          لتوضيح هذا التطور بشكل منهجي، يمكن تلخيص الفروقات الجوهرية في الإطار القانوني قبل وبعد عام 2008 في الجدول التالي:
  • الحد الأدنى لسن الزواج (أنثى) 18 سنة ميلادية (لغرض توثيق وتسجيل العقد رسمياً)
  • الحد الأدنى لسن الزواج (ذكر) 18 سنة ميلادية (لغرض توثيق وتسجيل العقد رسمياً)
  • الوضع القانوني للزواج دون السن فعل الزواج نفسه غير مجرّم صراحةً، ولكن توثيقه الرسمي محظور ويعاقب عليه القانون.
  • الأداة التشريعية الأساسية القانون رقم 126 لسنة 2008 (قانون الطفل) المعدِّل لقانون الأحوال المدنية.
           

المبحث الثالث: التحايل عبر الزواج العرفي والفجوات التشريعية

     
على الرغم من النوايا الحسنة التي حركت المشرّع في عام 2008، إلا أن القانون الجديد حمل في طياته ثغرة جوهرية أفرغته من الكثير من فاعليته. تمثلت هذه الثغرة في أن القانون ركز بشكل حصري على تجريم عملية التوثيق الرسمي للزواج، دون أن ينص صراحةً على تجريم فعل الزواج نفسه كجريمة مستقلة قائمة بذاتها. هذا القصور التشريعي لم يقضِ على الظاهرة، بل أدى إلى نتيجة عكسية غير مقصودة: لقد دفع الممارسة بأكملها إلى عالم الظل، وشجع على ازدهار آليات غير رسمية تعمل خارج نطاق رقابة الدولة، وأبرزها "الزواج العرفي". 
           
                 
  • الزواج العرفي كبديل غير قانوني
  •            
           
أصبح الزواج العرفي هو الأداة الرئيسية للتحايل على القانون. ففي مواجهة حظر التوثيق الرسمي، لجأت الأسر إلى إبرام عقد زواج عرفي، يتم عادةً بحضور شهود ورجل دين، ولكن دون تسجيله في السجلات الرسمية للدولة. ويتم هذا الإجراء بناءً على اتفاق ضمني أو صريح بين الطرفين على أن يتم توثيق الزواج رسمياً فور بلوغ الفتاة سن الثامنة عشرة. وبهذه الطريقة، يعتقدون أنهم يجمعون بين "الشرعية" الدينية والمجتمعية للعلاقة، مع تأجيل المواجهة مع القانون الرسمي. 
           
           
           
            هذه الممارسة أدت إلى ظهور ظاهرة قانونية واجتماعية خطيرة تُعرف بـ "زواج التصادق". فبعد أن تعيش الفتاة كزوجة لسنوات في زواج غير موثق، وتنجب أطفالاً في كثير من الأحيان، تتقدم الأسرة إلى المحكمة بعد بلوغها السن القانونية بطلب "التصادق" على الزواج السابق وإثباته رسمياً بأثر رجعي. وقد كشفت الإحصاءات عن حجم هذه الظاهرة، ففي عام 2018 وحده، شكلت حالات زواج التصادق ما نسبته 15.7% من إجمالي عقود الزواج المسجلة في ذلك العام، مما يعني أن المحاكم تقوم سنوياً بتقنين عشرات الآلاف من الزيجات التي بدأت كجريمة تحايل على القانون. 
           
           
            إن هذا الوضع يخلق مفارقة قانونية وأخلاقية عميقة. فالقانون الذي صدر بهدف حماية الطفلة، أصبح بشكل غير مباشر سبباً في خلق نظام موازٍ يكرس انتهاك حقوقها. فالدولة، من خلال سماحها لاحقاً بتوثيق هذه الزيجات عبر "التصادق"، ترسل رسالة ضمنية مفادها أن مخالفة القانون في البداية ليست جريمة لا تغتفر، بل هي مجرد عقبة إجرائية مؤقتة يمكن تجاوزها مع مرور الوقت. وبهذا، يتحول النظام القانوني من أداة للردع والمنع إلى أداة للتسوية والتقنين اللاحق للوضع غير القانوني، مما يشجع على استمرار الممارسة بدلاً من القضاء عليها.
             
                 
  • أشكال أخرى من التحايل
  •            
                 
إلى جانب الزواج العرفي، ظهرت أساليب أخرى للتحايل على القانون، وإن كانت أقل شيوعاً. من بين هذه الأساليب، اللجوء إلى تزوير شهادات الميلاد، أو الحصول على شهادات تقدير سن "تسنين" مزورة من بعض الموظفين أو الأطباء الفاسدين، لإثبات أن الفتاة قد بلغت السن القانونية على غير الحقيقة. كما انتشرت ممارسة كتابة "إيصالات أمانة" على الزوج بمبالغ مالية كبيرة، كوسيلة ضغط لضمان عدم تخليه عن الزوجة القاصر وإجباره على توثيق الزواج رسمياً عند بلوغها السن القانونية، وهو ما يحول العلاقة الزوجية إلى علاقة ابتزاز مالي، ويزيد من هشاشة وضع الفتاة. 
                 
                 
                 إن هذا الواقع يكشف عن حقيقة مؤلمة: قانون 2008، على أهميته، لم يحل المشكلة، بل غيّر شكلها. لقد نجح في منع الزواج الرسمي للقاصرات، لكنه فشل في منع زواج القاصرات نفسه. وبدلاً من القضاء على الظاهرة، أدى إلى خلق فوضى قانونية واجتماعية، حيث أصبح هناك نظامان للزواج في مصر: نظام رسمي موثق لمن هم فوق 18 عاماً، ونظام عرفي سري وغير محمي قانونياً لمن هم دون ذلك، وهو ما يمثل تراجعاً خطيراً في سيادة القانون ومبدأ المساواة أمامه.
           

المبحث الرابع: التبعات القانونية والصحية والمجتمعية المدمرة

     
إن الفجوة التشريعية التي سمحت باستمرار زواج القاصرات عبر القنوات غير الرسمية لا تتوقف آثارها عند مجرد التحايل على القانون، بل تخلق سلسلة متتالية من العواقب الوخيمة التي تدمر حياة الفتاة وأطفالها، وتفرض تكاليف باهظة على المجتمع والدولة على المدى الطويل.

تتمثل الكارثة القانونية الأكبر في وضع الأطفال المولودين من هذه الزيجات غير الموثقة. فهؤلاء الأطفال يولدون في فراغ قانوني، حيث لا يمكن استخراج شهادات ميلاد لهم لأن علاقة والديهم غير معترف بها رسمياً من قبل الدولة. هذا يعني أن الطفل يصبح "غير مرئي" في نظر القانون، بلا هوية رسمية. هذا الوضع ليس مجرد مشكلة إدارية، بل هو حرمان من حق أساسي من حقوق الإنسان، وهو الحق في الجنسية والاسم والهوية القانونية. 


ويترتب على غياب شهادة الميلاد سلسلة من الانتهاكات اللاحقة. فالطفل لا يمكنه الحصول على التطعimات الإلزامية في المراكز الصحية الحكومية، ولا يمكن تسجيله في المدارس، ويُحرم من كافة أشكال الدعم والحماية الاجتماعية التي توفرها الدولة لمواطنيها. وعندما يكبر، لن يتمكن من استخراج بطاقة هوية أو جواز سفر، ولن يكون له الحق في التملك أو العمل الرسمي أو حتى التصويت. إنه حكم بالموت المدني على آلاف الأطفال كل عام. وتشير الأرقام إلى حجم المأساة، ففي عامي 2015 و2016 وحدهما، نظرت محاكم الأسرة في 16 ألف دعوى إثبات زواج، و14 ألف دعوى إثبات نسب، وهي أرقام تعكس صرخات آلاف الأمهات القاصرات اللاتي يحاولن انتزاع اعتراف قانوني بوجود أطفالهن. 


أما بالنسبة للزوجة القاصر نفسها، فإن الزواج العرفي يضعها في موقف قانوني هش للغاية. فهي لا تتمتع بأي من الحقوق التي يكفلها الزواج الرسمي، مثل الحق في النفقة، أو الميراث، أو حضانة الأطفال في حالة الانفصال. وإذا تخلى عنها الزوج، فإنها تجد نفسها وحيدة، بلا حماية قانونية، وغالباً ما تكون مسؤولة عن أطفال غير معترف بهم قانونياً.


إن هذا الوضع لا يمثل مجرد مجموعة من المآسي الفردية، بل يشكل تهديداً وجودياً لأسس الدولة المدنية وسيادة القانون. فالدولة التي تعتمد على سجل مدني دقيق وشامل لتنظيم علاقتها بمواطنيها، تجد نفسها أمام شريحة متزايدة من السكان تعيش خارج هذا السجل. وعلى المدى الطويل، يؤدي خلق جيل كامل من المواطنين غير المسجلين إلى أزمة مواطنة حقيقية، حيث تنشأ فئة مهمشة ومحرومة من حقوقها الأساسية، مما قد يولد شعوراً بالظلم والغربة، ويغذي عوامل عدم الاستقرار الاجتماعي. إنها قنبلة ديموغرافية واجتماعية موقوتة، زرعتها ثغرة في القانون.

           
                 
  • العواقب الصحية المدمرة
  •            
           
الآثار الصحية لزواج القاصرات لا تقل تدميراً عن الآثار القانونية. فعلى الصعيد العالمي، تُعد المضاعفات المرتبطة بالحمل والولادة السبب الرئيسي الثاني لوفاة الفتيات في الفئة العمرية بين 15 و19 عاماً. فالجسم غير المكتمل النمو للفتاة القاصر غير مهيأ لتحمل أعباء الحمل والولادة، مما يعرضها لمخاطر صحية جسيمة مثل فقر الدم، وارتفاع ضغط الدم، والولادة المبكرة، والإجهاض المتكرر، والنزيف الحاد، وناسور الولادة. كما أن الأطفال المولودين لأمهات قاصرات هم أكثر عرضة للوفاة أو للإصابة بمشكلات صحية نتيجة انخفاض أوزانهم عند الولادة. 
           
            على الصعيد النفسي، يمثل الزواج المبكر اعتداءً عنيفاً على الصحة العقلية للفتاة. فهي تُنتزع فجأة من طفولتها، وتُحرم من التعليم واللعب والتفاعل مع أقرانها، وتُلقى بها في عالم من المسؤوليات الزوجية والأسرية التي تفوق قدرتها على الاستيعاب والتحمل. هذا التحول الصادم يؤدي إلى معدلات مرتفعة من الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب، والقلق، واضطرابات الشخصية، والشعور بالعزلة والحرمان العاطفي. علاوة على ذلك، تشير الدراسات إلى أن الزوجات القاصرات هن أكثر عرضة للعنف المنزلي، سواء كان جسدياً أو جنسياً أو نفسياً. فالفجوة العمرية الكبيرة بينها وبين زوجها، واعتمادها الاقتصادي الكامل عليه، وقلة وعيها بحقوقها، كلها عوامل تجعلها فريسة سهلة للاستغلال والإساءة. 
            
                 
                 
  • التداعيات الاجتماعية والاقتصادية
  •            
           
يمثل زواج القاصرات محركاً أساسياً لإدامة حلقة الفقر بين الأجيال. فعندما تُحرم الفتاة من إكمال تعليمها، فإنها تُحرم من فرصة اكتساب المهارات اللازمة لدخول سوق العمل والمساهمة في اقتصاد أسرتها ومجتمعها. هذا الأمر لا يؤثر عليها فقط، بل يمتد ليؤثر على أطفالها، حيث أن الأمهات المتعلمات هن أكثر قدرة على توفير رعاية صحية وتعليمية أفضل لأبنائهن. 
           
           
            على المستوى الوطني، يساهم الزواج المبكر في زيادة معدلات الخصوبة، حيث أن الفتاة التي تتزوج مبكراً تبدأ الإنجاب في سن مبكرة وتستمر لفترة أطول، مما يؤدي إلى زيادة النمو السكاني بشكل يضع ضغوطاً هائلة على موارد الدولة في مجالات الصحة والتعليم والإسكان والبنية التحتية. وبهذا، لا يكون زواج القاصرات مجرد قضية حقوقية، بل يصبح أيضاً عائقاً رئيسياً أمام تحقيق أهداف التنمية المستدامة. 
            
           

المبحث الخامس: إصلاح تشريعي ومجتمعي شامل

     
إن مواجهة ظاهرة معقدة ومتجذرة كزواج القاصرات تتطلب ما هو أكثر من الحلول الجزئية أو التعديلات الإجرائية. فالأزمة التي كشفت عنها هذه الدراسة، والمتمثلة في الفجوة التشريعية التي أوجدها قانون 2008، تستدعي إصلاحاً شاملاً ومتكاملاً، لا يكتفي بمعالجة الأعراض، بل يستأصل جذور المشكلة. وهذا الإصلاح يجب أن يرتكز على محورين أساسيين: محور تشريعي حاسم، ومحور مجتمعي داعم.

           
                 
  • حتمية التجريم: الانتقال من حظر التوثيق إلى تجريم الفعل
  •            
           
إن الخطوة الأولى والأساسية في أي إصلاح جاد هي سد الفجوة التشريعية الحالية. وهذا لا يمكن أن يتم إلا من خلال الانتقال من مجرد حظر توثيق الزواج إلى التجريم الصريح والواضح لفعل تزويج أي شخص دون الثامنة عشرة من العمر. لقد أصبحت هذه المطالبة محور جهود منظمات المجتمع المدني، ووصلت إلى أعلى مستويات الدولة، حيث وجه رئيس الجمهورية بنفسه مجلس النواب بسرعة إصدار تشريع مستقل لمنع الزواج المبكر. 
           
            يجب أن يتضمن هذا القانون الجديد، الذي يُفضل أن يكون قانوناً مستقلاً بذاته ليعكس خطورة الجريمة، عدة عناصر أساسية:
            
               
                 
  • التجريم الواضح: يجب أن ينص القانون بعبارات لا تقبل التأويل على أن "كل من عقد أو شارك في عقد زواج لأحد طرفيه أو كليهما لم يبلغ ثماني عشرة سنة ميلادية كاملة، يُعد مرتكباً لجريمة يعاقب عليها القانون".
  •                    
  • توسيع دائرة التجريم: لا يجب أن تقتصر العقوبة على الزوج البالغ أو ولي أمر الفتاة فقط، بل يجب أن تمتد لتشمل كل من ساهم أو سهل ارتكاب هذه الجريمة. وهذا يشمل المأذون أو رجل الدين الذي يعقد القران، والشهود الذين يشهدون على العقد وهم على علم بعمر القاصر، والطبيب أو الموظف الذي يزور شهادة تقدير السن، وكل من حرض أو ساعد على إتمام هذا الزواج.
  •                    
  • عقوبات رادعة: يجب أن تكون العقوبات المنصوص عليها قاسية بما يكفي لتحقيق الردع العام والخاص. وهذا يتضمن عقوبات سالبة للحرية، مثل السجن لمدد طويلة قد تصل إلى سبع سنوات أو أكثر كما اقترح البعض، بالإضافة إلى غرامات مالية كبيرة تتناسب مع جسامة الجرم.
  •                    
  • حماية الضحية: يجب أن يتعامل القانون مع الفتاة القاصر باعتبارها ضحية للجريمة، وليس شريكاً فيها. ويجب أن يتضمن نصوصاً واضحة لتوفير الحماية والرعاية والدعم النفسي والاجتماعي لها، وضمان استمرارها في التعليم، وإعادة دمجها في المجتمع.
  •            
           
            إن القانون، مهما بلغت صرامته، لن ينجح بمفرده في القضاء على ظاهرة تغذيها عوامل اقتصادية واجتماعية عميقة. لذا، يجب أن يكون الإصلاح التشريعي هو حجر الزاوية في استراتيجية وطنية أوسع وأشمل، تهدف إلى معالجة الأسباب الجذرية للمشكلة.
           

تلخيص للبحث

     
لقد كشفت هذه الدراسة عن رحلة تشريعية طويلة ومعقدة خاضتها مصر في مواجهة ظاهرة زواج القاصرات. وهي رحلة بدأت من حالة من اللامبالاة القانونية، مروراً بصحوة تشريعية هامة في عام 2008، وصولاً إلى الواقع الحالي الذي يتسم بوجود فجوة خطيرة بين النص القانوني والواقع المعاش. لقد أظهر التحليل أن قانون 2008، على الرغم من نجاحه في منع التوثيق الرسمي لزواج القاصرات، إلا أنه فشل في القضاء على الممارسة نفسها، بل دفعها إلى عالم الظل المتمثل في الزواج العرفي، مما خلق تداعيات كارثية على حقوق آلاف الفتيات والأطفال الذين يجدون أنفسهم في فراغ قانوني مدمر.


إن الاستمرار في هذا الوضع لم يعد مقبولاً. فالفجوة بين القانون والعدالة قد اتسعت إلى حد يهدد ليس فقط مستقبل ضحايا هذه الممارسة، بل يهدد أيضاً أسس سيادة القانون ومفهوم المواطنة في الدولة المصرية. لقد حان الوقت لاتخاذ خطوة حاسمة ونهائية، وهي سد هذه الفجوة من خلال إصدار تشريع مستقل وقوي يجرم فعل تزويج الأطفال بشكل صريح وقاطع، ويفرض عقوبات رادعة على كل من يشارك فيه.



إن هذه الدعوة موجهة في المقام الأول إلى مجلس النواب المصري، وإلى الحكومة، وإلى كافة مؤسسات الدولة المعنية. إن إصدار هذا القانون ليس مجرد ضرورة فنية لسد ثغرة تشريعية، بل هو واجب دستوري، والتزام أخلاقي، وضرورة مجتمعية لحماية أطفال مصر، وضمان مستقبل أكثر عدلاً وأماناً لهم. إنها اللحظة التي يجب فيها أن ينتصر القانون للعدالة، وأن تصبح حماية الطفولة هي المبدأ الأسمى الذي لا يمكن التحايل عليه أو المساومة بشأنه.

- للعلم شارك معايا في البحث قلبي وحبيبي أدم محمد