إثبات النسب في مصر

إثبات النسب في مصر

يتناول هذا البحث أزمة إثبات النسب المتفاقمة في مصر، والتي تحرم آلاف الأطفال من حقهم الأساسي في الهوية. يستعرض البحث كيف أصبحت المنظومة القانونية الحالية، القائمة على قاعدة "الولد للفراش"، عاجزة عن مواجهة الواقع الاجتماعي المتغير، خاصة مع الانتشار الهائل للزواج العرفي الذي يضع عبء إثبات شبه مستحيل على الأم. كما يسلط الضوء على التردد القضائي في اعتماد تحليل البصمة الوراثية (DNA) كدليل قاطع، وغياب أي نص قانوني يُلزم المدعى عليه بالخضوع له، مما يفتح الباب على مصراعيه للتهرب من المسؤولية. ويتعمق البحث في الفراغ التشريعي الكارثي الذي يحيط بتقنيات الإنجاب بمساعدة طبية (أطفال الأنابيب)، محذراً من مخاطر "خلط الأنساب" في غياب أي ضوابط قانونية.

نوع البحث: أحوال شخصية التاريخ: 11 أكتوبر 2025
صورة المحامي

أزمة هوية تتجاوز أروقة المحاكم

في أحد أروقة محاكم الأسرة، تقف طفلة صغيرة لم تبلغ السادسة من عمرها، تتمسك بأطراف ثوب والدتها، لا تفهم لماذا حُرمت من الالتحاق بالمدرسة أسوة بأقرانها. الإجابة بسيطة وقاسية في آن واحد: إنها لا تملك شهادة ميلاد. وفي مكان آخر، تخوض سيدة تدعى "مريم" معركة قضائية لإثبات نسب طفلتها الثانية، المولودة من زواج رسمي وموثق، فقط لأن والدها رفض تسجيلها واستخراج أوراقها الثبوتية لأنه كان يريد ولداً. هذه ليست مشاهد من عمل درامي، بل هي ومضات من واقع أليم يعيشه آلاف الأطفال والأمهات في مصر، حيث تحولت مسألة "إثبات النسب" من إجراء قانوني روتيني إلى أزمة هوية معقدة تهدد النسيج الاجتماعي.   
          
          
          
          إن حجم الأزمة يتجاوز الحالات الفردية ليصبح ظاهرة مقلقة. تشير التقديرات إلى أن أعداد الأطفال مجهولي النسب في مصر تتراوح بين 13 ألفاً و15 ألف طفل، في حين تنظر المحاكم المصرية في قرابة 15 ألف قضية إثبات نسب. هذه الأرقام الصادمة تكشف أننا أمام معضلة اجتماعية وقانونية واسعة النطاق، لم تعد تقتصر على النزاعات التقليدية. لقد تفاقمت الأزمة بفعل عاملين رئيسيين غيّرا وجه المجتمع وأربكا المنظومة التشريعية: أولهما، التوسع الهائل في ظاهرة "الزواج العرفي" الذي يحول معركة إثبات نسب الطفل إلى معركة أولية أكثر صعوبة لإثبات وجود الزواج نفسه. وثانيهما، ثورة تكنولوجيا الإنجاب بمساعدة طبية، أو ما يعرف بـ "أطفال الأنابيب"، والتي خلقت سيناريوهات معقدة تتعلق بالبنوة والأمومة لم يتخيلها المشرع، في ظل فراغ تشريعي كامل يترك الباب مفتوحاً أمام فوضى لا يمكن التنبؤ بعواقبها.   
          
          
          
          
          
          إن المنظومة القانونية الحالية، المستندة إلى قواعد فقهية عريقة وُضعت في سياقات تاريخية واجتماعية مختلفة، أصبحت اليوم قاصرة عن مواجهة هذا الواقع المتغير. والأخطر من ذلك، أنها أصبحت تُستخدم كأداة للتهرب من المسؤولية. لم يعد الأمر مجرد "فراغ تشريعي"، بل تحول إلى "أزمة استغلال للفراغ التشريعي". فالقانون الحالي، بضعفه وثغراته، لا يفشل في توفير الحماية الكافية فحسب، بل يمنح الطرف الأقوى في العلاقة، وهو الأب في معظم الحالات، سلطة شبه مطلقة على الوجود القانوني للطفل، مما يسمح له باستغلال هذه السلطة للكيد، أو للتهرب من الإنفاق، أو حتى كوسيلة للابتزاز. إن هذا التقاعس التشريعي عن مواكبة التغيرات الاجتماعية والعلمية يمثل انتهاكاً مباشراً لحق دستوري أصيل للطفل في الهوية والنسب، وهو الحق المكفول بموجب المادة 80 من الدستور المصري والمادة 4 من قانون الطفل، التي تؤكد على حق الطفل في نسبه الشرعي وإثباته بكافة وسائل الإثبات بما فيها الوسائل العلمية المشروعة.   

الولد للفراش

تُعد قاعدة "الولد للفراش" حجر الزاوية الذي قامت عليه منظومة إثبات النسب في الشريعة الإسلامية والقانون المصري على حد سواء. تستمد هذه القاعدة أصلها من الحديث النبوي الشريف: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" ، وهي قاعدة تهدف في المقام الأول إلى حماية الأعراض، وصون الأنساب، وتحقيق استقرار الأسرة. وقد تبنى المشرع المصري هذا المبدأ بشكل صريح في المادة 15 من القانون رقم 25 لسنة 1929، التي نصت على أنه "لا تسمع عند الإنكار دعوى النسب لولد زوجة ثبت عدم التلاقي بينها وبين زوجها من حين العقد، ولا لولد زوجة أتت به بعد سنة من غيبة الزوج عنها". فالفراش، بمعناه الشرعي والقانوني، هو علاقة الزوجية القائمة بين الرجل والمرأة، ومتى ثبت هذا الفراش، فإن نسب المولود يلحق بالزوج حكماً، حماية للطفل وللأسرة.   
          
          
          
          وقد رسخت محكمة النقض المصرية هذا المبدأ في العديد من أحكامها، مؤكدة أن النسب يثبت بأحد الطرق الثلاثة: الفراش (سواء كان الزواج صحيحاً أو فاسداً)، أو الإقرار، أو البينة (الشهادة). واعتبرت المحكمة أن مسائل النسب تتعلق بالنظام العام، وبالتالي لا يجوز للأفراد الاتفاق على ما يخالفها. ووضعت المحاكم شروطاً دقيقة لتطبيق قاعدة الفراش، أهمها أن يأتي المولود بعد مضي مدة لا تقل عن ستة أشهر من تاريخ عقد الزواج، وأن يكون من المتصور حدوث تلاقٍ بين الزوجين، دون اشتراط إثبات الدخول الفعلي أو الخلوة. وبهذا، كانت القاعدة أداة فعالة لحسم النزاعات وحفظ الأنساب في ظل الزواج الرسمي الموثق.   
         
               
  • الزواج العرفي وعبء الإثبات المزدوج
  •          
           
إذا كانت قاعدة "الولد للفراش" تمثل حصناً منيعاً لحماية نسب الطفل في الزواج الرسمي، فإنها تتحول إلى عقبة كأداء وسلاح ذي حدين في سياق الزواج العرفي المنتشر بكثافة في المجتمع المصري. هنا، تجد الأم نفسها في مواجهة "عبء إثبات مزدوج" يكاد يكون تعجيزياً. فقبل أن تبدأ في إثبات نسب طفلها إلى أبيه، عليها أولاً أن تخوض معركة قضائية مريرة لإثبات وجود "الفراش" نفسه، أي إثبات قيام العلاقة الزوجية التي ينكرها الزوج في أغلب الأحيان. ويقع على عاتقها وحدها عبء تقديم الأدلة، التي غالباً ما تكون هشة، مثل ورقة عقد عرفي قد يطعن الزوج عليها بالتزوير، أو شهادة شهود قد يتوارون عن الأنظار أو يرفضون الإدلاء بشهادتهم خوفاً من المشاكل.   
            
                        
            
            تزخر سجلات المحاكم بقصص مأساوية تعكس هذه المعاناة. ومن أبرزها، قضية الجد الذي وجد نفسه مضطراً لرفع دعوى لإثبات نسب حفيديه بعد أن حُكم على ابنه بالإعدام. كان الابن متزوجاً عرفياً من امرأة للحفاظ على معاش كانت تتقاضاه، وبعد وقوع الجريمة، هربت الزوجة بالأطفال. وعندما لجأ الجد للقضاء، اصطدم بطلب المحكمة المستحيل، وهو ضرورة حضور الزوجة الهاربة للإقرار بالزواج. هذه الواقعة تكشف عن قصور تشريعي فادح، حيث يصبح حق الطفل في النسب معلقاً على حضور أو إقرار طرف قد يكون هو نفسه سبباً في ضياع هذا الحق.   



إن التعامل مع الزواج العرفي كحالة استثنائية يتجاهل الأسباب الاجتماعية والاقتصادية العميقة التي تدفع الملايين للجوء إليه. فالدراسات الاجتماعية تشير إلى أن انتشاره ليس مجرد نزوة عابرة، بل هو نتيجة حتمية لظروف قاهرة، منها المغالاة في تكاليف الزواج الرسمي التي تفوق قدرة الشباب، وارتفاع معدلات البطالة، ورغبة بعض الأرامل والمطلقات في الاحتفاظ بمعاشاتهن التي تمثل لهن مصدر الدخل الوحيد. إن تجاهل المشرع لهذه الحقائق يجعل القانون منفصلاً عن الواقع، ويحول الأزمة من مشكلة قانونية إلى أزمة اجتماعية واقتصادية مركبة.   



إن هذا الوضع يخلق ما يمكن تسميته بـ "الحافز العكسي". فالمنظومة القانونية الحالية، من خلال تساهلها مع عدم توثيق الزواج، ووضعها عبء الإثبات شبه المستحيل على الطرف الأضعف، تشجع بشكل غير مباشر الرجال الذين ينوون التهرب من المسؤولية على اختيار هذا الشكل من الزواج. فالرجل الذي يرغب في علاقة زوجية دون أن يتحمل أعباء النفقة والميراث وتسجيل الأبناء، يجد في الزواج العرفي "استراتيجية خروج" آمنة قانونياً. هو يعلم مسبقاً أنه في حال نشوب خلاف أو إنجاب طفل، فإن إنكاره للزواج سيضع الأم في دوامة قضائية قد تستمر لسنوات، وقد لا تنجح في نهايتها. وبهذا، لا يكون تساهل القانون مجرد إهمال، بل يصبح عاملاً ممكناً ومحفزاً للتهرب من المسؤولية، مما يحول أزمة إثبات النسب من نتيجة عرضية للزواج العرفي إلى نتيجة شبه حتمية لهذا الخلل التشريعي العميق.

معضلة تحليل البصمة الوراثية (DNA)

في عصر أصبح فيه العلم قادراً على تقديم إجابات قاطعة، يقف القانون المصري متردداً أمام إحدى أهم الأدوات التي يمكن أن تحسم نزاعات النسب بشكل نهائي. لم يعد تحليل البصمة الوراثية (
DNA) مجرد قرينة أو أداة مساعدة، بل هو وسيلة علمية تصل دقتها إلى ما يقارب اليقين (99.9%)، قادرة على تحديد علاقة البنوة البيولوجية أو نفيها بشكل لا يدع مجالاً للشك. ومع ذلك، لا يزال القضاء المصري يتعامل مع هذه الحقيقة العلمية بحذر شديد، حيث استقر العرف القضائي على اعتبار نتيجة تحليل الـ
DNA
 مجرد "قرينة للاستئناس"، أي أنها دليل تكميلي يمكن للقاضي أن يأخذ به أو يطرحه جانباً وفقاً لسلطته التقديرية، ولا يُعتبر دليلاً قاطعاً ملزماً ينهي النزاع بمفرده.
 
 
 
 لكن الثغرة الأكثر خطورة، والتي تفرغ هذه الأداة العلمية من قيمتها عملياً، هي غياب أي نص تشريعي يُلزم المدعى عليه بالخضوع للتحليل بأمر من المحكمة. كل ما يمكن للمحكمة فعله في مواجهة الأب الذي يرفض إجراء التحليل هو اعتبار امتناعه هذا قرينة ضده. ولكنها تظل قرينة بسيطة يمكنه دحضها بأي وسيلة أخرى، مما يفتح الباب على مصراعيه للمماطلة والتهرب. فالأب المنكر للنسب، والذي يعلم في قرارة نفسه أن التحليل سيثبت أبوته، سيختار دائماً الامتناع، مدركاً أن القانون لن يجبره، وأن عقوبة امتناعه هي مجرد قرينة ضعيفة في ميزان القضاء.   
         
               
  • الموقف الفقهي: بين القبول المشروط والرفض المبدئي
  •          
           
يزداد المشهد تعقيداً بالنظر إلى الموقف الفقهي المتأرجح للمؤسسات الدينية الرسمية في مصر، كالأزهر الشريف ودار الإفتاء. فهذا الموقف يتسم بما يشبه الازدواجية؛ فهو يقبل بالبصمة الوراثية في حالات معينة ويرفضها في حالات أخرى. فمن ناحية، يجوز شرعاً استخدام التحليل لإثبات النسب في حالات وجود عقد زواج (صحيح أو فاسد) أو وطء شبهة، وكذلك في حالات التنازع على طفل مجهول النسب أو عند اختلاط المواليد في المستشفيات. أما من ناحية أخرى، فلا يجوز استخدامها لنفي نسب طفل وُلد على فراش زوجية صحيح، تمسكاً بقدسية قاعدة "الولد للفراش"، وبأن النفي في هذه الحالة لا يكون إلا عن طريق "اللعان". هذا الموقف، رغم وجاهته من منظور فقهي تقليدي، إلا أنه يخلق مفارقة عجيبة في الواقع المعاصر؛ فهو يقدس "الظن" المتمثل في الفراش على "اليقين" المتمثل في العلم، ويفتح الباب أمام الزوج لإلحاق نسب طفل ليس منه بيولوجياً، بينما يغلق الباب أمام إثبات نسب طفل هو منه بيولوجياً في حالات أخرى.   
            
            
            
            
            تتجلى خطورة هذا التردد القضائي والفقهي في قضايا واقعية تهز الوجدان، ولعل أبرزها قضية "أمل عبد الحميد"، ضحية الاغتصاب في الدقهلية. في هذه القضية، أثبت تقرير الطب الشرعي بشكل قاطع وبنسبة تطابق 100% أن الطفلة التي أنجبتها هي ابنة المتهم. ورغم هذا اليقين العلمي الدامغ، حصل المتهم في البداية على حكم بالبراءة، لأن المحكمة اعتبرت تقرير الطب الشرعي مجرد "رأي خبير" غير ملزم لها، ويمكنها أن تستعيض عنه بقناعتها الشخصية المستمدة من أدلة أخرى. هذه الواقعة وحدها كفيلة بأن تدق ناقوس الخطر، فهي تظهر كيف يمكن للمنظومة القانونية الحالية أن تتجاهل الحقيقة العلمية المطلقة، وتضحي بحق طفلة في هويتها من أجل التمسك بقواعد إثبات جامدة لم تعد تتناسب مع العصر.   
            
            
            
            
            
إن هذا التمسك برفض إلزامية تحليل الـ DNA
 ليس مجرد تحفظ فقهي، بل هو انعكاس لتردد المنظومة القانونية بأكملها في الانتقال من "نظام إثبات قائم على القناعة الشخصية للقاضي" إلى "نظام إثبات قائم على الحقيقة العلمية الموضوعية". هذا التردد يحمي البنية التقليدية للسلطة التقديرية الواسعة الممنوحة للقاضي على حساب حق الطفل في معرفة نسبه الحقيقي. فالقانون التقليدي يمنح القاضي سلطة تقدير الأدلة الظنية كالشهادات والقرائن. أما تحليل الـ
DNA
، فيقدم نتيجة شبه حتمية، مما يزيل جزءاً كبيراً من هذه السلطة ويفرض على القاضي حقيقة علمية. إن الموقف الحالي الذي يصف التحليل بأنه "قرينة للاستئناس" هو حل وسط يسمح للقاضي بالأخذ بالنتيجة إذا توافقت مع قناعته، وتجاهلها إذا تعارضت معها. وبالتالي، فإن مقاومة إلزامية الـDNA
 هي في جوهرها مقاومة لتغيير فلسفة الإثبات نفسها، وهي معركة بين التقدير الذاتي واليقين الموضوعي، معركة يظل فيها الطفل هو الخاسر الأكبر.

أطفال الأنابيب والإنجاب بمساعدة طبية

على مدار العقود القليلة الماضية، تحولت تقنيات الإنجاب بمساعدة طبية، مثل أطفال الأنابيب والحقن المجهري، إلى صناعة طبية مزدهرة في مصر. مئات المراكز المتخصصة تقدم الأمل لآلاف الأسر التي تعاني من صعوبات في الإنجاب، وتتراوح تكلفة المحاولة الواحدة بين آلاف وعشرات الآلاف من الجنيهات. ولكن خلف هذه الواجهة الطبية الحديثة، يكمن فراغ تشريعي هائل ومقلق. فعلى الرغم من أن هذه العمليات تُجرى في مصر منذ ثمانينيات القرن الماضي، إلا أنه حتى اليوم لا يوجد قانون واحد متخصص ينظم هذا المجال الحيوي والحساس.   





يعمل هذا القطاع الطبي بأكمله وفقاً لـ "لوائح" إدارية غير ملزمة، و"أعراف" مهنية، وفي النهاية يعتمد الأمر على "ضمير الطبيب" القائم على العملية. هذا الوضع يرفضه رجال القانون والمشرعون الذين يرون أن الاعتماد على الضمير وحده في مسألة خطيرة تتعلق بالأنساب هو أمر غير مقبول، ويطالبون بضرورة وجود تشريع واضح وصارم يضع ضوابط وعقوبات رادعة. إن غياب القانون لا يترك فقط الأطباء والمرضى دون حماية، بل يفتح الباب على مصراعيه لسيناريوهات كارثية تهدد المفهوم التقليدي للأسرة والنسب.   
إن الصمت المطبق للمشرع المصري إزاء هذه الثورة الطبية يخلق مخاطر حقيقية يمكن أن تؤدي إلى نزاعات قانونية واجتماعية مستعصية على الحل في ظل القوانين الحالية. ومن أبرز هذه السيناريوهات:
         
               
  • خطر استخدام طرف ثالث: تتمثل الكارثة الأكبر في إمكانية استخدام حيوانات منوية من متبرع مجهول أو بويضات من متبرعة أخرى غير الزوجة، سواء حدث ذلك عن طريق الخطأ البشري في المختبر أو بشكل متعمد. في هذه الحالة، يطرح سؤال لا يمكن للقانون الحالي الإجابة عليه: من هو الأب أو الأم الحقيقي للطفل؟ هل هو الأب "الشرعي" (الزوج) أم الأب "البيولوجي" (المتبرع)؟ هل هي الأم "الشرعية" (الزوجة) أم الأم "البيولوجية" (صاحبة البويضة)؟.   
  •            
  • المصير المجهول للأجنة المجمدة: تحتفظ مراكز الخصوبة بآلاف الأجنة المجمدة التي تمثل بداية حياة إنسانية. فما هو مصير هذه الأجنة في حالة وفاة الزوجين، أو في حالة طلاقهما؟ هل تُعتبر "تركة" يمكن للورثة التصرف فيها؟ هل يجوز للزوجة استخدامها بعد وفاة زوجها؟ القانون المصري صامت تماماً، تاركاً هذه الأسئلة الأخلاقية والقانونية المعقدة دون إجابة.   
  •              
  • الأم البديلة (تأجير الأرحام): على الرغم من أن المؤسسات الدينية تحرم هذه الممارسة بشكل قاطع، إلا أن غياب نص قانوني يجرمها صراحة يفتح الباب أمام إمكانية حدوثها في الخفاء. وفي هذه الحالة، ينشأ نزاع فريد من نوعه حول الأمومة بين طرفين: الأم صاحبة البويضة (الأم البيولوجية)، والأم التي حملت الجنين وأنجبته (الأم الحاضنة). فمن منهما يعترف بها القانون كأم شرعية للطفل؟.   
  •          
           
إن عجز المنظومة القانونية الحالية يتجلى بوضوح في محاولاتها البائسة للتعامل مع هذه القضايا. ففي إحدى الوقائع، عندما اكتشف زوج أن زوجته استخدمت بويضات من سيدة أخرى دون علمه، لم يجد القضاء أمامه سوى اللجوء إلى "قانون تنظيم زرع الأعضاء البشرية" لمعاقبة الزوجة والطبيب، معتبراً أن ما حدث يمثل جريمة "خلط أنساب" تندرج تحت هذا القانون. هذا التكييف القانوني، رغم ضرورته في غياب نص خاص، إلا أنه يوضح بشكل قاطع مدى قصور التشريعات الحالية واضطرارها لتطبيق نصوص وُضعت لأغراض مختلفة تماماً، بشكل لا يتناسب مع الطبيعة الفريدة لهذه الجرائم الجديدة.   
            
            
            
            إن هذا الفراغ التشريعي لا يخلق فقط مشاكل مستقبلية، بل إنه يقوض بأثر رجعي المبدأ الأساسي الذي بُني عليه قانون النسب بأكمله، وهو أن "الأبوة علاقة شرعية لا طبعية" كما تؤكد دار الإفتاء. لقد فصلت التكنولوجيا الحديثة بشكل قاطع بين الفعل الجنسي (أساس العلاقة الشرعية) وبين الإنجاب (النتيجة البيولوجية). فعندما يحدث خطأ في المختبر ويُستخدم حيوان منوي من متبرع، نجد أنفسنا أمام أب "شرعي" (الزوج) وأب "بيولوجي" (المتبرع). قاعدة "الولد للفراش" التقليدية ستنسب الطفل للزوج، لكن الحقيقة البيولوجية التي يثبتها تحليل الـDNA
 تقول العكس تماماً. هنا، لم يعد بإمكان القانون أن يتجاهل البعد البيولوجي. إن الفراغ التشريعي يعني أن المشرع يدفن رأسه في الرمال، متجاهلاً أن التكنولوجيا قد دمرت بالفعل الفصل النظري بين النسب الشرعي والنسب البيولوجي. وبالتالي، فإن عدم وجود قانون ليس مجرد إغفال، بل هو رفض للاعتراف بأن أسس قانون الأحوال الشخصية برمته أصبحت بحاجة إلى إعادة نظر جذرية في ضوء الحقائق العلمية الجديدة التي فرضت نفسها على الواقع.   

توصيات لتشريع يحمي حق الطفل أولاً

إن أي إصلاح تشريعي حقيقي يجب أن ينطلق من إعادة ترتيب للأولويات، وتحويل فلسفة القانون من حماية مفاهيم مجردة مثل "الفراش" إلى حماية كيان إنساني ملموس هو "الطفل". يجب أن تصبح "مصلحة الطفل الفضلى" وحقه الأصيل في الهوية والنسب هي المبدأ الحاكم الذي تُبنى عليه جميع النصوص. وهذا يتطلب تحركاً على ثلاثة محاور رئيسية.
         
               
  • المحور الأول: تعديل قواعد الإثبات التقليدية
  •              
  • إلزامية البصمة الوراثية: يجب الخروج من منطقة التردد القضائي والاعتراف باليقين العلمي. وذلك من خلال إضافة مادة جديدة وصريحة إلى قانون الإثبات أو قانون الأحوال الشخصية تنص على ما يلي: "للمحكمة، في جميع دعاوى النسب، أن تأمر من تلقاء نفسها أو بناءً على طلب أحد الخصوم بإجراء تحليل البصمة الوراثية (DNA ). ويُعتبر امتناع المدعى عليه عن الخضوع للتحليل بعد أمره مرتين حجة قاطعة على صحة ادعاء المدعي. وتُعد نتيجة التحليل المطابقة دليلاً كاملاً ينهي النزاع، ولا يجوز دحضها إلا بالطعن بالتزوير على التقرير الطبي".   
  •              
  • تقييد اللعان: يجب تعديل النصوص المتعلقة باللعان لنفي النسب، بحيث لا يُقبل طلب الزوج باللعان إذا جاءت نتيجة تحليل البصمة الوراثية قاطعة ومثبتة لبنوة الطفل له. فاليقين العلمي يجب أن يتقدم على القسم، حماية للطفل من الضياع بسبب شكوك الأب أو رغبته في التهرب من المسؤولية.   
  •            
         
               
  • المحور الثاني: مواجهة فوضى الزواج العرفي
  •              
  • تجريم العقود غير الموثقة: يجب تعديل قانون العقوبات لإضافة نص يجرم "كل من شارك في إبرام أو شهد على عقد زواج مع علمه بعدم توثيقه لدى الجهة الرسمية المختصة". يجب أن تشمل العقوبة الزوجين، والشهود، والمحامي الذي يحرر مثل هذه العقود، بهدف تجفيف منابع هذه الظاهرة الخطيرة التي تعرض حقوق النساء والأطفال للضياع.   
  •              
  • آلية لتصحيح الأوضاع: بالتوازي مع التجريم، يجب فتح باب "تصحيح الوضع" لفترة انتقالية، يتم من خلالها السماح بتوثيق عقود الزواج العرفي القائمة والمكتملة الأركان الشرعية بأثر رجعي، مع فرض غرامات مالية، لضمان استقرار المراكز القانونية للأسر والأطفال الناتجين عن هذه الزيجات.
  •            
         
               
  • المحور الثالث: تشريع شامل لتكنولوجيا الإنجاب
  •              
  • شروط الترخيص والرقابة: وضع معايير فنية وتقنية وطبية صارمة لترخيص مراكز الخصوبة، مع آلية رقابة فعالة من وزارة الصحة ونقابة الأطباء لضمان جودة الخدمات وسلامة الإجراءات.   
  •              
  • تجريم استخدام طرف ثالث: النص صراحة وبشكل قاطع على تجريم استخدام أي مادة وراثية (حيوانات منوية أو بويضات أو أجنة) من خارج العلاقة الزوجية الشرعية الموثقة، مع فرض عقوبات جنائية مشددة على الطبيب المسؤول والزوجين المتواطئين.
  •            
  • تجريم استخدام طرف ثالث: النص صراحة وبشكل قاطع على تجريم استخدام أي مادة وراثية (حيوانات منوية أو بويضات أو أجنة) من خارج العلاقة الزوجية الشرعية الموثقة، مع فرض عقوبات جنائية مشددة على الطبيب المسؤول والزوجين المتواطئين.
  •                
  • تنظيم مصير الأجنة المجمدة: وضع قواعد واضحة لمصير الأجنة المجمدة في حالات الطلاق أو وفاة أحد الزوجين أو كليهما، مع إعطاء الأولوية للإرادة الحرة للزوجين المسجلة كتابياً قبل بدء العلاج. وفي حالة عدم وجود اتفاق، يجب تحديد فترة زمنية يتم بعدها إعدام الأجنة لمنع أي نزاعات مستقبلية.
  •              
  • تحديد النسب بشكل قاطع: النص على أن الطفل الناتج عن هذه التقنيات، طالما تمت وفقاً للقانون، ينسب حصراً للزوجين أصحاب المواد الوراثية الذين خضعوا للعلاج، ويعتبر أي خطأ يحدث داخل المركز لا يؤثر على هذا النسب، مع ترتيب المسؤولية المدنية والجنائية على المركز الطبي المتسبب في الخطأ.
  •            

من أجل مستقبل لا يُسأل فيه طفل "أنا ابن مين؟"

لقد كشف هذا البحث عن أزمة هوية عميقة ومتشعبة الجذور، تهدد مستقبل آلاف الأطفال في مصر. إن التحديات الثلاثة التي تم تحليلها - فوضى الزواج العرفي، والتردد في تبني اليقين العلمي المتمثل في البصمة الوراثية، والفراغ التشريعي الكارثي في مجال الإنجاب المساعد - تتضافر لتخلق منظومة قانونية عاجزة عن حماية الحق الأساسي للإنسان: حقه في اسم وهوية ونسب. لم تعد المشكلة مجرد ثغرات قانونية يمكن ترقيعها، بل هي أزمة في فلسفة التشريع نفسه.



إن الوقت قد حان لينتقل المشرع المصري من منطق حماية المفاهيم التقليدية المجردة إلى منطق حماية الحقوق الملموسة والواقعية للطفل. يجب أن يتغلب اليقين العلمي على الظن والافتراضات، وأن تكون مصلحة الطفل هي البوصلة التي توجه كل تعديل تشريعي. إن ترك طفل بلا هوية هو جريمة يرتكبها المجتمع والقانون معاً قبل أن يرتكبها الأب المتنصل من مسؤوليته.



إنها دعوة مباشرة وموجهة للمشرع المصري للتحرك العاجل والجذري. فكل يوم يمر دون إصلاح تشريعي شامل، هو يوم جديد يضيع فيه حق طفل في الالتحاق بمدرسة، وفي الحصول على رعاية صحية، وفي أن يحمل اسماً يربطه بأسرته ومجتمعه. إنها دعوة لإنهاء هذه المأساة الصامتة، ولضمان ألا يضطر أي طفل في مصر أن يقف حائراً بعد اليوم، ليسأل السؤال الأكثر إيلاماً: "أنا ابن مين؟".