مقدمة في القانون | المدخل للعلوم القانونية
المدخل للعلوم القانونية - مقدمة في القانون
مما لا ريب فيه أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، ففطرته تأبى به أن يعيش منعزلاً عن غيره من بني جنسه، فهو لا يستطيع بمفرده أن يواجه مخاطر الطبيعة أو أن يشبع حاجاته الأساسية من مأكل وملبس ومسكن.
لذا، كان من المحتم عليه أن يتعاون مع غيره للتغلب على قوى الطبيعة من ناحية، وللتخصص في أداء خدمة أو إنتاج سلعة معينة يستطيع أن يبادلها بغيرها لإشباع حاجاته الضرورية من ناحية أخرى. ومن هنا باتت الحياة الاجتماعية ضرورة للإنسان منذ نشأة الحياة البشرية وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ولكن لما كانت النفس البشرية أمارة بالسوء، وتطمع دائماً فيما لا تملكه، كان الإنسان بطبعه أنانياً وينزع دائماً إلى إشباع حاجاته وإسعاف نفسه ولو كان ذلك على حساب الآخرين، وهذه الطباع غير المحمودة في الإنسان هي ما دفعت المجتمعات إلى التفكير في تقرير قواعد تحكم سلوك الأفراد وتنظم العلاقات فيما بينهم.
بحيث لا تفرط فئة على فئة أخرى، ولا تترك الأمر في التقدير لكل فرد على حدة، يستأثر لنفسه بكل ما هو جميل ومستحسن، ويترك لغيره من أفراد مجتمعه كل ما هو قبيح ومستهجن. ومن ثم وُجدت القواعد القانونية بهدف تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع، سواء كانت هذه العلاقات مالية أو اقتصادية، أو علاقات عائلية أو أسرية، أو علاقات سياسية إلى غير ذلك.
أهمية القانون بالنسبة للمجتمع (نظرة عامة)
كما ذكرنا، وُجدت القواعد القانونية بهدف تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع، سواء كانت هذه العلاقات مالية أو اقتصادية، أو علاقات عائلية أو أسرية، أو علاقات سياسية إلى غير ذلك.
(سؤال استنتاجي):
لماذا يعتبر الإنسان "كائن اجتماعي"؟ وما علاقة ذلك بضرورة وجود "القانون"؟
العلاقات المالية أو الاقتصادية
فبالنسبة للعلاقات المالية أو الاقتصادية: فهي تنشأ بين أفراد المجتمع لأنه - وكما سبق وأن أشرنا - فمهما بلغت قوة الفرد أو طاقته فلن يستطيع أن يشبع حاجاته بنفسه، لذا كان لزاماً عليه أن يتخصص في أداء خدمة أو إنتاج سلعة معينة ويبادلها بغيرها من الخدمات أو السلع مع قرنائه من أفراد مجتمعه.
وقد ترتب على ذلك بالضرورة أن نشأت هذه العلاقات أو الروابط المالية (الاقتصادية)، فالفرد الواحد يبيع ويشتري، ويؤجر ويستأجر، ويقرض ويقترض، إلى غير ذلك من المعاملات المالية التي تجري في حياتنا اليومية.
وبذلك، ولا شك أن كل هذه المعاملات أياً كانت طبيعتها، إنما تحتاج إلى تنظيم قانوني يبين مدى حقوق والتزامات أطرافها، حتى لا يعتدى بعضهم على حقوق البعض الآخر.
(سؤال توضيحي):
لماذا لا يستطيع الإنسان إشباع حاجاته بنفسه؟ وكيف أدى ذلك لظهور ما يسمى بـ "العلاقات المالية"؟
العلاقات العائلية أو الأسرية
وبالنسبة للعلاقات العائلية أو الأسرية: فهي تنشأ بين أفراد المجتمع لأن الله في سنة خلقه قد اقتضت أن يلجأ الإنسان إلى الارتباط بزوج ليحافظ على سلالته من الانقراض، ولينعم هو ومن يخلفه بثمرات هذه الروابط والعلاقات.
وتنشأ عنها بعض الحقوق والواجبات المتبادلة بين أفراد الأسرة الواحدة، كالزوج له على زوجته حق الطاعة، ولها عليه حق النفقة والمعاملة الحسنة، والأب على ولده حق التأديب، وعليه واجب الاتفاق عليهم، ورعايتهم، إلى غير ذلك من الحقوق والواجبات التي تنشأ في نطاق الأسرة. وتحتاج بدورها إلى تنظيم قانوني يبين مدى ما يتمتع به كل فرد من أفراد الأسرة من حقوق تجاه الفرد الآخر، وما يتحمل به من التزامات.
العلاقات السياسية
أما بالنسبة للعلاقات السياسية: فهي تنشأ في أي مجتمع لأن كل فرد من أفراد هذا المجتمع لا يستطيع بمفرده منع غيره من الاعتداء على حقوقه أو تطبيق القواعد التنظيمية التي وضعتها الجماعة حماية له. ونظراً لظهور الأمم، ومن ثم ظهرت الحاجة إلى وجود سلطة لها عليا على إرادة الأفراد، وتكون أوفرهم فهماً.
كل من تسول له نفسه الخروج على أحكامه، وإهدار نظام المجتمع أو الإخلال بسلامته وكيانه، فتقيم المجتمع بذلك بين أفراده. هذه حاكمة تكون لها سلطة الأمر والنهي، وبذلك يهنأ الجميع، ويأمن كل فرد ما يمكنه من الجور والأذى على ظلامة، واستلزام القانون، وتقويمه وعقابه.
ويستقر في سائر أفراد المجتمع، ويكون عليها الخضوع والطاعة لإبرام القوانين ونواهيها. وإلا تعرضت الجزاء، وكان من البديهي - والحال أن المجتمع قد انقسم على هذا النحو - أن توجد نصوص قانونية تنظم شكل العلاقات بينه، وتبين الأسس التي تقوم عليها نظم الحكم في المجتمع، وعلاقة السلطة الحاكمة بسائر أفراده.
وهنا تبدو أهمية القانون بالنسبة للفرد والجماعة في آن معاً، فلا مجتمع إذن بدون قانون يحكم سلوك أفراده، وينظم علاقاتهم وروابطهم المختلفة، سواء كانت علاقات مالية وعائلية وسياسية، وغير ذلك.
فمن غير القانون تسود الفوضى وينهدم الأمن والاستقرار بين أفراد الجماعة، وهذا يكفي كبح جماح النفس البشرية بما تحمله من غرائز وشهوات، والاستئثار، والصدق في الأرض. وكانت العناية بإلزام الأقوى، ومن ثم يهدف القانون هو تحقيق أمن واستقرار المجتمع.
(سؤال للمناقشة):
"لا مجتمع بلا قانون، ولا قانون بلا مجتمع". اشرح هذه العبارة في ضوء ما قرأت عن العلاقات السياسية.
ثانياً: عصر التقاليد الدينية
لما أرادت الأديان السماوية الالتزام بالمعالم السامية الداعية إلى وجوب احترام الغير والتحلي بالفضيلة والأخلاق الحميدة أسرت أفراد المجتمع بالتعاليم الدينية. لهذه التعاليم والمثل أثر فعال في المعتقدات والتقاليد الإدارية القديمة التي آلت إليها من كثير من الصراعات والحروب التي أودت بحياة الكثير من الأشخاص، وتسببت في عموم الفوضى والعصبية القبائلية، ومن هنا تغلغلت القوانين الدينية، وحلت بذلك محل التقاليد القبلية القديمة.
ويعتبر ظهور القانون مع ظهور هذه التقاليد تطوراً كبيراً، فالأحكام الإلهية التي جاء بها الرسل والأنبياء وعمل على نشرها رجالات الدين بعدهم، كانت هي أولى القواعد القانونية التي عرفتها البشرية، وساعد على تقبل الأفراد لها واعتبارها قواعد إلزامية ملزمة لهم، أنها كانت تمتاز بالصبغة الدينية.
وقد يجد الباحث أن هذه القواعد التي جاءت في القوة أو الضعف أثناء الاعتداء في الحقوق أو مباشرتها، بل كانت لتلك القواعد الإلهية الأسبقية هي التي تحدد تلك الحقوق وتحميها عن طريق قضاء عادل، إلى أن ظهرت المجتمعات التي وجدت وجوب تدوين تلك القواعد في صورة مكتوبة، وإضافة قواعد أخرى جديدة تتواءم مع التطورات الحادثة في تلك المجتمعات.
عصراً: عصر التدوين (التشريع المكتوب)
عندما أخذت المجتمعات القديمة بكتابة القواعد الإلهية والتقاليد العرفية التي كانت سائدة آنذاك، ظهرت لتلك أول قواعد قانونية مكتوبة في صورة مدونات قانونية، وكانت هذه المدونات هي الشرارة الأولى التي انبعث منها وهج القواعد القانونية التي نمر بها في عالمنا اليوم في صورة تشريعات مكتوبة.
ويجمع المؤرخون على أن فكرة القانون لم تكن لها في نشأتها تلك قواعد، فهذه القواعد كانت موجودة بالفعل.
وقد تبلورت فكرتها البدائية، وتصور دورها كأداة على تدوين وتسجيل تلك القواعد في شكل مكتوب فحسب، وإذ سارت المجتمعات على نهج تدوين الأحكام القانونية والإلهية منذ بداية عصر التدوين وحتى الوقت الحالي، فنشأ ما يعرف في عالمنا اليوم بالقواعد القانونية المكتوبة التي أطلق عليها لفظ 'القانون' أو 'التشريع'.
(سؤال توضيحي):
ما هو "عصر التدوين"؟ وما أهميته في تطور القانون من مجرد تقاليد دينية إلى "تشريع"؟
فكرة تطور القانون بتطور المجتمع ذاته:
رأينا من خلال المراحل التاريخية السابقة كيف أن القانون قد نشأ نشأة بسيطة في صورة قواعد عرفية بدائية وغير مكتوبة، إلى أن ظهرت الكتابة وبدأ عصر التدوين فاتجه العلماء إلى كتابة تلك القواعد لتتماشى مع التطورات التي حدثت في المجتمع، وليس قاصراً التطور بحسب آراء العلماء على تطور القواعد القانونية وتدوينها، بل إن التطور شمل العلوم الإnsانية الأخرى.
نشأ وتطوراً كذلك القانون، وظهر بعد أن تيقن ما تقدم أن القانون باعتباره مجموعة القواعد التي تنظم العلاقات والروابط بين أفراد المجتمع يُعد ظاهرة اجتماعية لا يوجد إلا بوجود المجتمع، وقد اقتضت سنة الله في خلقه أن يبعث الأرسال، جامعاً بعد تفرق، واجتماعاً بعد نفور، تصفه بصبغة إنسانية، وكان من أثر هذه السنة أن تطورت المجتمعات دورها بما تشغلها من علوم إنسانية، وقد خضع القانون بدوره لتلك السنة الأزلية باعتباره علماً من العلوم الإnsانية، فهو يتطور بصبغة تابعة لسلوك التطور الحادث في المجتمع.
ومما لاشك فيه أن التسليم بفكرة تطور القانون بتطور المجتمع، أنكر على من اختلف القانون من مكان إلى آخر، أو من وقت لآخر. أما التسليم بامتلاك القانون في المكان الواحد مر زمان أو آخر، فالقانون مقدس، خالداً، يمكن عن القانون الإلهي.
فالقانون المطبق حالياً يختلف بصورة عن القانون الذي كان مطبقاً في ذات إبان العهد الأول، فالإنسان في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي وقبل الثورة الفرنسية، كما أن القانون المطبق حالياً في أي بلد من البلدين سوف يأتي عليه حين يصبح فيه غير متوافق مع حاجات المجتمع وظروفه المتغيرة، ومن ثم المستدعى إليه عندئذ التغيير والإصلاح.
العلاقة بين القانون والواقع:
رأينا أن القانون ضرورة تفرضها الحياة الاجتماعية للتوفيق بين مصالح الأفراد المتعارضة، وتحقيق الأمن والاستقرار في المجتمع، ووظيفة القانون تحقيق هذا الهدف، أي أن يبين كل ما هو مسموح به للفرد وما يتمتع به من حقوق وحريات، وما هو محرم عليه وما يجب عليه من التزامات أو مسئوليات.
بحيث يكون الفرد عالماً مقدماً بما يمكن أن يأتيه من أفعال وما لا يمكن أن يفعله، ويطلق على ما هو مسموح به للفرد القيام به اسم 'الحقوق والحريات العامة'، أما ما يجب على الإنسان فعله وما يرد على حرياته من قيود، فيطلق عليها اسم 'الالتزامات'.
والفرد التي حيز له حرياته، وقيد له حركاته، فذلك الذي ملكه، حق ملكية على هذا الشيء، يخول له سلطة استعماله، واستغلاله، والتصرف فيه، والتي هي في اقتضاء دينه من مدينه، والالتزام الحرفي بالعهود، والعمل والقول إلى غير ذلك من الحقوق والحريات التي يجوز للإنسان ممارستها في المجتمع.
فكل هذه الحقوق وكل هذه الحريات، وتلك الالتزامات في ذات الوقت، التزامات أو قيود على حريات الآخرين في المجتمع، فحتى الإنسان فيما يملكه، يشكل في ذات الوقت التزاماً على عاتق غيره من أفراد المجتمع، بالتزام هذا الملك وعدم المساس به.
وحق الدائن في اقتضاء حقه من مدينه بعد التزاماً على عاتق الأخير بسداد ما عليه من دين في الأجل المحدد للسداد، والتزاماً فردياً، وكذلك الشأن بالنسبة لكافة الحقوق والحريات الأخرى مثل حرية الإنسان في العقيدة والعمل والتنقل إلى غير ذلك من الحريات العامة، فمثل هذه الحريات تعد قيوداً على كفة أفراد المجتمع، باحترام هذه الحريات أو تلك الحقوق وعدم الاعتداء عليها.
(سؤال للمقارنة):
ما الفرق بين "الحقوق والحريات العامة" و "الالتزامات"؟ وكيف أن "حق" شخص ما هو "التزام" على شخص آخر؟
خطة الدراسة وتقسيمها:
يظهر مما تقدم أن دراسة القانون ترتكز على علم القانون، تنقسم إلى موضوعين اثنين، هما 'القانون' و 'الحق'، وعلى ذلك فإننا نقسم مؤلفنا هذا إلى قسمين رئيسيين، خصصنا الأول منهما لدراسة نظرية القانون، وأفردنا له الكتاب الأول من هذه الدراسة، أما القسم الثاني فخصصناه لدراسة نظرية الحق، وخصصنا له الكتاب الثاني من هذه الدراسة.
ومن البديهي أن تسبق دراستنا لنظرية القانون بباب أول نرسم فيه مفاهيم مصطلح 'القانون' ومضمونه، وهو ما لا يمكن أن يتأتى إلا بالوقوف أولاً على تعريفه وخصائصه العامة التي تميز قواعده عن غيرها من القواعد الأخرى التي تحكم سلوك الأفراد في المجتمع، ثم ببيان فروعه وأقسامه المختلفة التي درج الفقه عليها منذ زمن طويل، ثم نتبعه إلى الباب بالحديث عن أنواع القواعد القانونية من حيث قوة الإلزام أو من حيث طبيعتها.
أما عن تعريف القواعد القانونية على اختلاف أنواعها ومصادرها، فدراسة مصادر القانون، فقواعد القانون لا تنشأ من مصدر واحد، وإنما لها طرق شتى، فالتشريع، ومنها ما يكون بطريق العرف، ومنها ما يُستمد من الأحكام الدينية، ومنها ما يكون من مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، وهذا كله يقتضي منا التعرض لهذه المصادر المختلفة التي تترد عنها القواعد القانونية بشيء من التفصيل.
وبعد أن تمت القواعد القانونية على اختلاف أنواعها ومصادرها، وصدور الأحكام والمنشآت والأوامر الاشتباه، فما وجدت لتطبق على المخاطبين بها من أفراد المجتمع. وعلى الوقائع التي تتناولها بالتطبيق، وأول ما يمكن أن يثور من تساؤل: عند تطبيق هذه القواعد هو مدى جواز تطبيقها على من يدعي عدم علمه بها، فهل يقبل من أي فرد من أفراد المجتمع، تعذر جهله بالقواعد أم لا؟
ثم أول التساؤل من ناحية أخرى، حول نطاق تطبيق تلك القواعد من حيث المكان، فهل تعد تطبيقها خارج نطاق إقليم الدولة التي أصدرتها، أم أنها تنطبق داخل حدود تلك الدولة فحسب؟ وأخيراً، يثور التساؤل أيضاً حول مدى إمكانية تطبيق تلك القواعد من حيث الزمان، فهل يمكن تطبيق تلك القواعد بأثر رجعي على ما مضى من أفعال قبل نفاذها، أم أنها تنطبق فقط على ما يستجد من تلك الوقائع في المستقبل بعد ميلادها؟
ثم إذا ما وجدنا إجابة على كل هذه الأسئلة السابقة، وحددنا المدى الذي يمكن تطبيق القواعد القانونية من حيث الأشخاص والمكان والزمان، فإننا نجد أنفسنا أمام ضرورة أخرى تتعلق بتلك القواعد عند تطبيقها، فتبين أي قاعدة قانونية تحتاج إلى تفسير، فقواعد التشريع في شكل عام، ولكي يتأتى معرفة محتوى تلك القواعد، ومعرفة ما تحتوي عليه من حلول، فإنه ينبغي علينا التعرف على القواعد التي تحكم تفسير هذه، كل هذا يقتضي منا أن نرد الباب الثالث والأخير من هذه النظرية لدراسة المبادئ العامة التي تحكم تطبيق القانون وكيفية تفسيره.
خلاصة خطة الدراسة (النظرية العامة للقانون)
من هذه المقدمة الوجيزة يتضح لنا الموضوعات التي سنتناولها بالدراسة من خلال 'النظرية العامة للقانون' والتي يمكن أن نعرضها بشيء من خلال ثلاثة أبواب فيما يلي:
- الباب الأول: المقصود بالقانون ومضمونه
- الباب الثاني: مصادر القانون
- الباب الثالث: تطبيق القانون وتفسيره