التمييز بين القواعد القانونية والقواعد الاجتماعية | أولى حقوق

التمييز بين القواعد القانونية والقواعد الاجتماعية الأخرى

39. قلنا آنفاً أنه ليست القواعد القانونية التي تضعها السلطة العامة في الدولة وحدها هي التي تحكم سلوك الأفراد في المجتمع، فهناك قواعد أخرى تحكم ذلك السلوك وتقف جنباً إلى جنب بجوار القواعد القانونية.

وهذه القواعد يمكن إجمالها في ثلاثة أنواع هي: قواعد الدين، وقواعد الأخلاق، وأخيراً قواعد المجاملات.

وتشترك قواعد القانون مع هذه القواعد الثلاث في عدة خصائص، غير أنها تختلف عنها في خصائص أخرى أهمها: أن قواعد القانون تكون مصحوبة بجزاء مادي ملموس يوقع فور ارتكاب المخالفة على من يخالفها، بينما تتميز معظم القواعد الأخرى بوجود جزاء معنوي أو أدبي يُوقع على من يخالفها.

وسنحاول فيما يلي بيان أوجه الشبه والخلاف بين قواعد القانون وغيرها من القواعد الأخرى التي تحكم سلوك الأفراد في المجتمع من خلال المقارنة بينها على النحو التالي...

40. أولاً: المقصود بقواعد الدين وبيان أنواعها

(Règles de droit et règles religieuses)

40. يقصد بقواعد الدين (Les règles religieuses ou les commandements religieux) "تلك القواعد التي يوحي بها الله سبحانه وتعالى إلى رسله وأنبيائه ليبلغوها إلى الناس حتى تسير علاقتهم بربهم في حياتهم الدينية، وبذلك رضوان الله، وثوابه، ونجاتهم من سخطه وعقابه."

وتتنوع الأحكام الدينية ثلاثة أنواع: النوع الأول يشمل الأحكام التي تبين أصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، كالتوحيد، وإثبات وجود الله، والإيمان باليوم الآخر، وما يستتبعه من بعث وحساب وجنة ونار (العقائد).

وهذه، لا تهتم بها إلا القواعد الدينية، ولا توجد ثمة حاجة في أي مجتمع لتقريرها، وترتيب الأثر عليها، لكونها قواعد تتعلق بما هو كامن في ضمير الإنسان. النوع الثاني من الأحكام الدينية، فتلك التي تنظم علاقة الإنسان بربه، من دار عبادته، مثل إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج، وما يلحق بهذا النوع الديني من هذه الأحكام.

فأما القسم الثالث فيشمل الأحكام التي تحكم علاقات الأفراد بعضهم ببعض، أو علاقاتهم بغيرهم من أفراد المجتمع، كالبيع، والإيجار، والزواج، والطلاق، والميراث... إلخ (المعاملات).

(سؤال توضيحي):
ما هي الأقسام الثلاثة للأحكام الدينية؟ وأي قسم منها هو الذي يتقاطع مع القانون؟

41. ثانياً: أوجه الشبه بين قواعد الدين وقواعد القانون

41. تشترك قواعد القانون مع النوع الثالث من قواعد الأخيرة والتي يطلق عليها اسم "أحكام المعاملات"، تلك الأحكام تنظم سلوك الأفراد في المجتمع. فلقواعد الدين، علاوة على ما تهتم به من الروابط، فإنها تنظم سلوك الأفراد في المجتمع شأنها في ذلك شأن قواعد القانون، فكلاهما يهتم بتنظيم الروابط، كعلاقات الزواج والميراث والبيوع... إلخ.

كما أن الدين قد تُعد، أقدم، أيضاً، بجزع، وقواعد القانون، فالدين قديم قدم الإنسان على هذه البسيطة، بينما القانون حديث العهد نسبياً. وهذا لا ينفي أن القانون قد استمد كثيراً من أحكامه من قواعد الدين، وبذلك يتفق معه، بل إنه يعد تطبيقاً لهذه القواعد.

بل إن المتتبع لتطور المجتمعات الإنسانية يجد أن قواعد القانون سواء بسواء، قواعد الأخلاق، وقواعد المجاملات، كلها كانت مختلطة بقواعد الدين، ثم ما لبثت أن انفصلت عنها، وأصبحت كل منها قواعد مستقلة بذاتها.

ويعزز البعض أن هناك فروع من القانون الوضعي، كقانون العقوبات، وقانون الأحوال الشخصية، لا زالت تستمد أحكامها من قواعد الدين. ومثال ذلك: نجد أن قانون العقوبات يجرم القتل والسرقة والنصب، وكلها أفعال يجرمها الدين، وكذلك الشأن بالنسبة لقواعد الزواج والطلاق والميراث... إلخ، فكلها قواعد مستمدة من الدين.

وإذا كان القانون الوضعي، في بعض الدول، يستمد قواعده من الدين، فإن ذلك لا ينفي أن القانون الوضعي قد يختلف من مجتمع لآخر، ومن زمن لآخر، أما قواعد الدين، فهي قواعد ثابتة لا تتغير بتغير الزمان أو المكان.

وإذا كان القانون يوجد في بعض جوانبه، يتفق مع قواعد الدين، فإن ذلك لا يعني أن القانون هو الدين، أو أن الدين هو القانون. فكلاهما يختلف عن الآخر في أمور شتى، سنتعرض لها فيما بعد.

(سؤال للمناقشة):
"القانون قد استمد كثيراً من أحكامه من قواعد الدين". اذكر أمثلة لقوانين وضعية ما زالت تستمد أحكامها من الدين.

42. ثالثاً: أوجه الخلاف بين قواعد الدين وقواعد القانون

42. على الرغم من هذا التقارب الواضح بين القواعد القانونية والقواعد الدينية، فهذا لا ينفي إطلاقاً أن هناك خلافاً بين هذين النوعين من القواعد، نوجزها فيما يلي:

(أ) من حيث النطاق:

  • (أ) من حيث النطاق:

    القواعد الدينية أوسع نطاقاً من القواعد القانونية، فعلاوة على أنها تنظم سلوك الأفراد في المجتمع (المعاملات)، فهي أيضاً، وكما سبق وأن بينا، تنظم علاقة الفرد بربه (العبادات)، وعلاقة الفرد بنفسه (العقائد).

    أما القانون فلا يهتم إلا بالقواعد التي تنظم سلوك الأفراد في المجتمع، أما علاقة الفرد بربه أو بنفسه، فلا يهتم بها القانون، لأنها من الأمور الكامنة في ضمير الإنسان.

    وعلى هذا، وفي إطار النظرة الضيقة، فإن دائرة القواعد الدينية أوسع من دائرة القواعد القانونية، وأن دائرة القواعد القانونية أضيق من دائرة القواعد الدينية.

    فإذا نحن نظرنا إلى دائرة السلوك الاجتماعي التي تحكم سلوك الأفراد في المجتمع، فإننا نجد أن هناك خلافاً بين دائرة القواعد الدينية ودائرة القواعد القانونية، فكلاهما يتقاطعان في بعض الجوانب، ويختلفان في البعض الآخر.

    وهذا لا ينفي أن هناك من الأمور ما يهتم بها القانون ولا يهتم بها الدين، ومثال ذلك: القواعد المتعلقة بتنظيم المرور، أو تحديد مواعيد العمل الرسمية... إلخ، فهذه قواعد لا يهتم بها الدين، ويهتم بها القانون.

(ب) من حيث الغاية:

  • (ب) من حيث الغاية:

    تختلف الغاية التي تسعى إليها القواعد القانونية عن الغاية التي ترمي إليها القواعد الدينية، فقواعد الدين، علاوة على ما تهدف إليه من تحقيق الأمن والاستقرار في المجتمع، فإنها تهدف أيضاً إلى غاية أسمى، وهي السمو بالإنسان نحو الكمال، وإرضاء الله سبحانه وتعالى، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.

    أما غاية القانون، فهي غاية نفعية، تهدف إلى تحقيق الأمن والاستقرار في المجتمع، ولا تهتم، في سبيل ذلك، بالنوايا، وإنما بالسلوك الخارجي للأفراد.

    وترتيباً على ذلك، فإن القانون لا يهتم، مثلاً، ببعض الرذائل، كالكذب، والحسد، والرياء... إلخ، فهذه أمور يهتم بها الدين، ولا يهتم بها القانون، إلا إذا ترتب عليها ضرر للغير، كشهادة الزور، أو النصب، أو الاحتيال... إلخ، فهنا يتدخل القانون، ليس ليعاقب على الكذب، وإنما ليعاقب على الضرر الذي لحق بالغير.

(ج) من حيث الجزاء:

  • (ج) من حيث الجزاء:

    أشد أوجه الخلاف بين قواعد الدين وقواعد القانون تتمثل أيضاً في الجزاء الذي يوقع على من يخالف أحكامها.

    فالجزاء في القواعد الدينية، وكما سبق وأن بينا، هو جزاء دنيوي، يوقع في الدنيا، وجزاء أخروي، يوقع في الآخرة. فالجزاء الدنيوي، قد يوقع في الدنيا على من يخالف أحكام الدين، كعقوبة القاتل، والسارق... إلخ، وقد يوقع، أيضاً، في الدنيا، جزاء، كعقوبة تارك الصلاة، أو المفطر في رمضان... إلخ.

    أما الجزاء الأخروي، فهو مؤجل إلى ما بعد الموت، يتمثل في عذاب الآخرة، ونار جهنم.

    وهذا لا ينفي أن هناك من الأمور ما لا يترتب عليه سوى الجزاء الأخروي، كالكذب، والحسد، والرياء... إلخ، فهذه أمور لا يترتب عليها جزاء دنيوي، وإنما جزاء أخروي.

    غير أنه في بعض الأحيان، تتفق القواعد الدينية مع القواعد القانونية في توقيع الجزاء الدنيوي، كما في حالة القتل، والسرقة، والنصب... إلخ، فهذه أفعال يعاقب عليها القانون، ويعاقب عليها الدين.

    ومع ذلك، فإن هناك اختلافاً بين الجزاءين، فالجزاء في القانون هو جزاء دنيوي، يوقع في الدنيا، أما الجزاء في الدين، فهو جزاء دنيوي وجزاء أخروي.

(سؤال للمقارنة):
لخص الفروق الثلاثة الجوهرية (من حيث النطاق، والغاية، والجزاء) بين القانون والدين.