شرح المدرسة الوضعية ومدرسة الدفاع الاجتماعي | علم العقاب
المدرسة الوضعية ومدرسة الدفاع الاجتماعي
ظهرت المدرسة الوضعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في إيطاليا، كرد فعل لأفكار المدرسة التقليدية التي ركزت على حرية الاختيار. قامت المدرسة الوضعية على فكرة "الحتمية" ونادت باستبدال العقوبات بـ "التدابير". وفيما بعد، ظهرت حركة "الدفاع الاجتماعي الحديث" التي حاولت التوفيق بين حماية المجتمع وحقوق الفرد، ممثلة في اتجاهين رئيسيين: اتجاه متطرف (جراماتيكا) واتجاه معتدل (مارك أنسل).
المدرسة الوضعية: النشأة والأسس (الحتمية)
ظهرت المدرسة الوضعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في إيطاليا على يد كل من الدكتور "سيزر لومبروزو" أستاذ الطب الشرعي، "إنريكو فيري" أستاذ القانون الجنائي، والقاضي "رفائيلو جاروفالو"، وذلك كرد فعل لفشل الفكر التقليدي عن مواجهة ظاهرة الجريمة من ناحية، ومن ناحية ثانية، كنتيجة لانتشار المنهج الوضعي التجريبي القائم على الملاحظة والتجريب.
الأسس التي تقوم عليها المدرسة الوضعية
تقوم أفكار المدرسة الوضعية على إنكار مبدأ حرية الاختيار وتتبنى فكرة «الجبرية» أو «الحتمية». Déterminisme في تفسير وتحليل الظاهرة الإجرامية.
ويعني هذا المبدأ أن الإنسان ليس حراً أو مخيراً في أفعاله، وإنما هو مسير إلى ارتكاب الجريمة في حالة ما إذا توافرت جميع الظروف التي تؤدي إليها. فالمجرم - وفقاً لعلماء هذه المدرسة - منقاد أو مدفوع إلى ارتكاب الجريمة.
النتائج المترتبة على فكرة الحتمية
ويترتب على هذه الأفكار أنه لا يجوز توقيع عقوبة على المجرم؛ لأن العقوبة ليست إلا جزاء مقابل الخطيئة، والفرض هنا أن المجرم لم يخطئ؛ فالجريمة نتيجة لازمة لا يملك الجاني إزاءها حرية الاختيار، ولا يملك تبعاً لذلك مقاومتها. فيلزم فقط اتخاذ "تدابير دفاع اجتماعي" تتناسب مع كل مجرم لانتزاع خطورته الإجرامية. وعلى ذلك، فالمدرسة الوضعية تقوم على إنكار فكرتي الخطيئة والعقوبة.
علل: لماذا رفضت المدرسة الوضعية فكرة "العقوبة" واستبدلتها بـ "تدابير الدفاع الاجتماعي"؟
الإجابة: لأن المدرسة الوضعية قامت على أساس "الحتمية" (الجبرية) وأنكرت "حرية الاختيار". وبما أن العقوبة هي جزاء لـ "خطيئة" (ناتجة عن حرية اختيار)، فإذا انتفت حرية الاختيار، انتفت الخطيئة، وبالتالي تنتفي العقوبة. ويصبح دور الدولة فقط هو "الدفاع الاجتماعي" عبر تدابير لمواجهة خطورة المجرم (الذي كان مجبرًا على جريمته).
مبادئ وتقييم المدرسة الوضعية
بناءً على الأسس الفكرية السابقة، فإن الغرض الوحيد للعقوبة (أو التدبير) هو "الدفاع الاجتماعي".
تدابير الدفاع الاجتماعي عند "إنريكو فيري"
إلى جانب التدابير التي تطبقها المحاكم، نادى "إنريكو فيري" بضرورة تجنب الجريمة قبل وقوعها، وذلك باتخاذ تدابير تسمى "التدابير المانعة أو الوقائية Mesures préventives"، ويكون ذلك بنشر التعليم والقضاء على العوامل التي تؤدي إليها كالفقر والسكر والتشرد والبطالة.
أما التدابير التي تطبقها المحاكم فتختلف في نوعها باختلاف المجرمين: فالمجرمون الذين يرجع إجرامهم لعوامل بيولوجية (المجرمون بالميلاد) أو يكون تحديد محل إقامتهم (كالمجرمين بالعادة) أو لخلل عقلي، فيجب اتخاذ تدابير "استئصال" أو "إبعاد" (كالمجرمين بالمصادفة).
تقييم المدرسة الوضعية (الانتقادات)
لا يمكن إنكار فضل هذه المدرسة الوضعية في تطوير وسائل السياسة الجنائية، فهي استحدثت فكرة "التدابير الاحترازية" التي أصبحت صورة ثابتة في التشريعات. وكذلك نبهت لأهمية "التدابير المانعة".
أهم الانتقادات:
- أنها تجاهلت في تفسيرها للظاهرة الإجرامية إلى مقدمات لم تسلم من النقد، مثل فكرة المجرم بالتكوين أو بالميلاد.
- أنها تخلت عن فكرة حرية الاختيار وتبنت فكرة لا تتطابق مع الواقع وهي "الجبرية" أو "الحتمية".
- أنها حصرت أغراض العقوبة في القضاء على خطورة المجرم، وأغفلت بذلك الردع العام والعدالة.
- أنها أهملت حماية المجتمع من الجناة أكثر من اهتمامها بإصلاحهم، فهي كما ذهب بعض الفقه، تعامل المجرمين كحيوانات يجب قلبها، أو وضعها في أقفاص أو تدريبها.
اختر - التدابير التي نادى بها "فيري" لمكافحة الفقر والبطالة والسكر، تسمى:
(أ) تدابير الدفاع الاجتماعي. (ب) تدابير استئصال. (ج) التدابير المانعة أو الوقائية. (د) التدابير العلاجية.
الإجابة: (ج) التدابير المانعة أو الوقائية. (لأنها تهدف لمنع الجريمة قبل وقوعها).
حركة الدفاع الاجتماعي الحديث (تمهيد)
اصطلاح «الدفاع الاجتماعي» ليس جديداً في الفقه الجنائي، فقد استخدم من قبل العصور المختلفة في المدارس الفقهية الكبرى. فقد تقبلته المدرسة الدينية التقليدية لتبرير توقيع العقوبة، بينما ذهبت إلى أنه لا يجوز للمشرع أن يتدخل بالعقاب إلا في الحدود اللازمة للدفاع الاجتماعي.
التمييز بين المدارس
أشارت المدرسة الوضعية إلى هذا المصطلح، حينما قالت أنه يلزم اتخاذ تدابير للدفاع الاجتماعي تتناسب مع كل مجرم لانتزاع خطورته الإجرامية.
ولم يكن يعني هذا المصطلح - سواء بالنسبة للمدرسة التقليدية القديمة أو بالنسبة للمدرسة الوضعية - إلا مجرد حماية المجتمع من الإجرام. أما بالنسبة لحركة الدفاع الاجتماعي الحديث، فالمصطلح له دلالة مختلفة، ولذلك فقد حرص أنصار هذه الحركة على إضافة كلمة "جديدة" أو "حديثة" للتأكيد على هذا الاختلاف.
علل: لماذا حرص أنصار حركة الدفاع الاجتماعي على إضافة كلمة "الحديث" أو "الجديد"؟
الإجابة: للتأكيد على اختلاف مدلول المصطلح عندهم؛ فبينما كانت المدارس القديمة والوضعية تعني بـ "الدفاع الاجتماعي" مجرد "حماية المجتمع من المجرم"، فإن الحركة الحديثة (خاصة جراماتيكا) أعطته مدلولاً مختلفاً قد يصل إلى "حماية المجرم من المجتمع".
اتجاه الدفاع الاجتماعي عند "جراماتيكا" وتقييمه
فيما يلي نستعرض أهم الآراء الفقهية التي قامت عليها حركة الدفاع الاجتماعي الحديث، وخاصة آراء الفقيه الإيطالي "فليبو جراماتيكا" والفقيه الفرنسي "مارك أنسل".
مدلول الدفاع الاجتماعي عند جراماتيكا
الدفاع الاجتماعي عند جراماتيكا لا يعني حماية المجتمع من المجرمين ولكن حماية المجرمين من المجتمع. فالمجرمون، وفقاً لحركة الدفاع الاجتماعي، هم ضحية المجتمع والظروف الاجتماعية التي وضعتهم فيها، وعلى ذلك فإن على الدولة التزام بإعادة تأهيل المجرمين. ومما لا شك فيه أنه عندما يتحقق هذا الهدف، سوف يستفيد المجتمع؛ فحماية المجتمع لا تتحقق إلا بحماية جميع المواطنين، ومن بينهم المجرمين.
إحلال "الدفاع الاجتماعي" محل القانون الجنائي
قد ذهب إلى القول بأن الدفاع الاجتماعي يقتضي تغييراً جوهرياً في النظام الجنائي، فطالب بإلغاء فكرة "القانون الجنائي" أو "قانون العقوبات"، ونادى بإحلال اسم "قانون الدفاع الاجتماعي" بدلاً من اسم قانون العقوبات. وتبعاً لذلك نادى بإلغاة فكرة الجريمة، والعقوبة، والمسئولية. وتكون فكرة "الحالة اللااجتماعية" أو السلوك الغير اجتماعي بدلاً من فكرة الجريمة، وهذه الفكرة تكفي عند جراماتيكا لتدخل الدولة.
تقييم أفكار جراماتيكا
هذه الأفكار تتسم بالمبالغة، لأنها تؤدي إلى نتائج غير مقبولة:
- أولاً (تقدير أفكار جراماتيكا): فكرة الجريمة ضرورية وليست كما صورها.
- ثانياً (نظرية أكثر جراماتيكا): فكرة المسئولية الجنائية والاجتماعية تحل محلها تدابير الدفاع الاجتماعي.
- ثالثاً (تعويض الاهتمام): فكرة "السلوك اللااجتماعي" فكرة غامضة وغير محددة، مما يهدد الحريات الفردية ويفتح الباب للتحكم.
- رابعاً (تجاهل بعض أغراض العقوبة): حصر غرض العقوبة في "الردع الخاص" (تأهيل المجرم) وتجاهل الردع العام وتحقيق العدالة.
اختر - دعا "جراماتيكا" إلى استبدال مصطلح "الجريمة" بمصطلح:
(أ) الخطيئة. (ب) الحالة اللااجتماعية. (ج) السلوك الإجرامي. (د) التدبير الاحترازي.
الإجابة: (ب) الحالة اللااجتماعية.
اتجاه الدفاع الاجتماعي عند "مارك أنسل"
نشر الأستاذ "مارك أنسل" آراءه في كتابه "الدفاع الاجتماعي الحديث"، الذي نشر سنة ١٩٥٤، قاصداً تصحيح حركة الدفاع الاجتماعي الحديث، ووضعها في إطار الشرعية، بعد الهجوم الشرس الذي تعرضت له الحركة في أغلب إعلان جراماتيكا لأفكاره، والتي قرر بها مسئولية المجتمع عن سلوك الجاني.
أهداف حركة مارك أنسل
بداية يؤكد مارك أنسل على أهمية وجود القانون الجنائي، وأن وجوده لا يمثل عقبة أمام تحقيق الدفاع الاجتماعي، الذي يعني حماية المجتمع وحماية الفرد من الإجرام. كان ذلك يتطلب تطوير القانون الجنائي، وذلك بإضفاء الطابع الإنساني عليه، مع الاهتمام بدراسة شخصية المجرم، وجعل هذه الدراسة أساس التفريد العقابي.
كنه أفكار مارك أنسل
كذلك أكد "مارك أنسل" على أهمية توقيع التدبير المناسب على المجرم لتأهيله وإصلاحه، وكيفية حمايته من العودة إلى الإجرام. وتحقيق هذا الغرض يتم بدراسة شخصية المجرم، وبالأسلوب العلمي التجريبي.
وقد دفعه التفاؤل إلى الحد الذي دعاه إلى رفض توقيع عقوبة الإعدام مهما كانت الجريمة المرتكبة، على أساس أن المجرم مهما كانت خطورته، لا يوجد ما يمنع إصلاحه ليعود مواطناً صالحاً في المجتمع مرة أخرى.
علل: بالرغم من أن "مارك أنسل" من دعاة الدفاع الاجتماعي، إلا أنه خالف "جراماتيكا" وأكد على أهمية "القانون الجنائي".
الإجابة: لأنه رأى أن القانون الجنائي هو الإطار الشرعي الضروري لحماية المجتمع وحماية الفرد، وأنه لا يمثل عقبة أمام الدفاع الاجتماعي، بل يجب فقط تطويره بإضفاء الطابع الإنساني عليه والتركيز على دراسة شخصية المجرم كأساس للتفريد العقابي.
تقييم أفكار "مارك أنسل" والتوفيق بين المدارس
أيضاً أكد أنسل على ضرورة وجود التدابير الاحترازية إلى جانب العقوبة في القوانين الجنائية؛ وذلك لإعطاء القاضي إمكانية واسعة في تقدير الجزاء المناسب لكل مجرم حسب ظروفه وحالته.
رفض أفكار جراماتيكا والتمسك بالشرعية
و قد رفض مارك أنسل ما نادى به جراماتيكا من وجوب إلغاء الجريمة والعقوبة وتغيير بعض المصطلحات القانونية وتغيير اسم قانون العقوبات، بل اعترف بوجود القانون الجنائي والمسئولية الجنائية على أساس حرية الاختيار (التي نادى بها أنصار المدرسة التقليدية الحديثة) وأكد على أهمية القضاء الجنائي واحترامه الكامل لمبدأ الشرعية.
تقييم أفكار مارك أنسل (النقد الموجه له)
حاول مارك أنسل التوفيق بين أفكار المدرسة التقليدية والوضعية وذلك بالاعتراف بالمبادئ التي لاقت تأييداً من الفقه، وأكد حرصه على حماية الحريات الفردية، واعتبار أن إصلاح المجرم التزام يقع على عاتق الدولة.
النقد: ولكن مما يؤخذ على هذه الحركة أنها حصرت أغراض العقوبة في تحقيق الردع الخاص فقط، وذلك بتأكيدها على أهمية تأهيل المجرم وإصلاحه، وتجاهلت الأغراض الأخرى للعقوبة، الأمر الذي جعلها محلاً للنقد.
الصواب (وجهة نظر الكاتب): الصواب هو الجمع بين أغراض العقوبة الثلاثة لمكافحة الإجرام، وليس الاقتصار على تحقيق إحدى هذه الأغراض فقط دون بعضها الآخر: فيجب أن يكون من بين أغراض العقوبة تحقيق العدالة؛ وذلك لصيانة القيم الأخلاقية في المجتمع، ومحاولة محو العدوان أو الظلم الذي وقع على المجني عليه، بالقصاص له لإرضاء شعوره، وكذلك لإرضاء الشعور العام بالعدالة، وأيضاً لا يمكن إنكار دور الردع العام في مكافحة الظاهرة الإجرامية.
اختر - النقد الأساسي الموجه لحركة "مارك أنسل" (رغم توفيقيته) هو أنها:
(أ) أنكرت حرية الاختيار. (ب) طالبت بإلغاء القانون الجنائي مثل جراماتيكا. (ج) حصرت أغراض العقوبة في تأهيل المجرم (الردع الخاص) وأغفلت تحقيق العدالة والردع العام. (د) أيدت عقوبة الإعدام بشدة.
الإجابة: (ج) حصرت أغراض العقوبة في تأهيل المجرم (الردع الخاص) وأغفلت تحقيق العدالة والردع العام.