شرح درس الحركة الوطنية والثورة العرابية | تاريخ 3 ثانوي
الحركة الوطنية والثورة العرابية
يتناول هذا الدرس فترة من أخطر الفترات في تاريخ مصر، والتي تبدأ من تولي الخديوي توفيق الحكم، مروراً بتفاقم الأزمة المالية والتدخل الأجنبي السافر، وهو ما أدى إلى اشتعال "الثورة العرابية".
سنتتبع في هذا الشرح عوامل قيام الثورة، ومظاهر الحركة الوطنية التي سبقتها، ثم الأحداث المتسارعة للثورة العرابية نفسها، بدءاً من حادثة قصر النيل، ومطالب الضباط، ومظاهرة عابدين الكبرى، وصولاً إلى التدخل الأجنبي العسكري الذي انتهى بالاحتلال البريطاني لمصر.
عوامل قيام الثورة العرابية (السياسية والاقتصادية)
كان المناخ العام في مصر مهيأً للثورة، وقد ساهمت عدة عوامل سياسية واقتصادية في إشعالها، حيث حمل المصريون لواء المعارضة.
العوامل السياسية
تمثلت العوامل السياسية في زيادة التدخل الأجنبي في شؤون مصر، والذي بدأ مع الديون في عهد إسماعيل وتفاقم في عهد توفيق.
كما أدى خضوع الخديوي توفيق التام للأجانب، وحكمه المطلق المستبد، ورفضه لإقامة حياة نيابية، إلى جانب سياسات "رياض باشا" رئيس الوزراء (الذي كان يضطهد الوطنيين ويعطل الصحف) إلى حالة من الغليان الشعبي وتذمر الأعيان والمثقفين.
العوامل الاقتصادية
كان الوضع الاقتصادي متردياً بسبب "قانون التصفية" (يوليو ١٨٨٠)، الذي خصص أكثر من نصف موارد الميزانية لسداد الديون، وحرم الأهالي من ثمرة جهودهم.
ومما زاد الطين بلة، كان "إلغاء قانون المقابلة" عام ١٨٨٠. هذا القانون كان يسمح للفلاحين بامتلاك الأرض ملكية قانونية مقابل دفع ستة أمثال الضريبة مقدماً. وعندما أُلغي القانون، غضب الأعيان وكبار ملاك الأراضي الزراعية (الذين استدانوا لدفع هذه المبالغ) وأصبحوا من أشد المؤيدين للثورة.
العوامل العسكرية المباشرة للثورة
رغم الغليان الشعبي، إلا أن العسكريين كانوا هم "الفتيل" الذي أشعل الثورة. كانوا الأكثر تنظيماً وقدرة على التغيير، ولأنهم جزء لا يتجزأ من المجتمع المصري، فقد تأثروا بالمناخ العام، بالإضافة إلى معاناتهم داخل الجيش.
أسباب تذمر ضباط الجيش
- سوء معاملة الأتراك والشراكسة: عانى الضباط المصريون من تعسف القيادات التركية والشركسية، خاصة وزير الحربية "عثمان رفقي"، الذي حرمهم من الترقية والرتب العالية.
- تدهور الأوضاع الاقتصادية: إحالة كثير من الضباط للتقاعد (التوفير) دون تدبير وظائف مدنية لهم، بالإضافة إلى قصر الترقية العسكرية على خريجي المدارس الحربية، مما أضر بالضباط المصريين الذين ترقوا من صفوف الجنود.
- السبب المباشر (نقل عبد العال حلمي): كان "نقل" الأميرالاي "عبد العال حلمي" (قائد آلاي طرة) إلى ديوان الحربية وتعيين أحد الشراكسة مكانه، بمثابة "الشرارة" التي فجرت غضب الضباط، حيث اعتبروها تنزيلاً متعمداً لرتبته.
الحركة الوطنية (المدنية) قبل الثورة
قبل تحرك الجيش، ظهرت عدة مظاهر للمعارضة المدنية ضد سياسات الخديوي توفيق ورياض باشا، تمثلت في جمعيات سرية وعلنية.
جمعية حلوان (عُرفت باسم "الحزب الوطني")
تألفت هذه الجمعية من الأعيان والمثقفين الناقمين على سياسة رياض باشا، ونشرت أول بيان سياسي لها في نوفمبر ١٨٧٩م.
وعندما زاد تغلغل النفوذ الأوروبي، طالبت الجمعية في منتصف ١٨٨١م بمطالب جريئة:
- إعادة جميع أملاك الخديوي (الدائرة السنية) وأملاك أسرته (الدومين) إلى الحكومة المصرية.
- إلغاء النص المخصص لإيرادات السكك الحديدية لحساب الديون.
- توحيد جميع الديون في دين واحد بفائدة ٤٪ فقط.
- تكوين إدارة مراقبة وطنية خاصة بدلاً من المراقبة الثنائية الأجنبية.
حاول رياض باشا معرفة أفراد هذه الجمعية لنفيهم إلى السودان، ولكنه لم يستطع.
جمعية مصر الفتاة
تأسست هذه الجمعية في الإسكندرية، وأصدرت جريدة تحمل اسمها، وطالبت الخديوي بإطلاق الحريات العامة.
الشرارة الأولى: حادثة قصر النيل (يناير - فبراير ١٨٨١)
بدأت أحداث الثورة العرابية الفعلية باجتماع الضباط المصريين في منزل "أحمد عرابي" في يناير ١٨٨١، لمناقشة وضعهم داخل الجيش، وانتهوا بكتابة عريضة تطالب رئيس الوزراء "رياض باشا" بعزل وزير الحربية التركي "عثمان رفقي" وتعيين وزير مصري مكانه.
حادثة قصر النيل (مظاهرة عابدين الأولى)
رفضت الحكومة مطالب الضباط، وأصدر الخديوي توفيق أوامر باعتقال "أحمد عرابي" وزميليه (علي فهمي وعبد العال حلمي) وتقديمهم للمحاكمة العسكرية.
أثناء المحاكمة في قصر النيل، هاجم زملاء الضباط (فرقهم العسكرية) قاعة المحكمة، مما أدى إلى هروب المجلس العسكري. خرج الضباط الثلاثة وتوجهوا جميعاً لمقابلة الخديوي توفيق في ميدان عابدين.
نتائج الحادثة
أمام هذا التمرد الواضح، اضطر الخديوي للاستجابة لمطالبهم:
- قام بعزل "عثمان رفقي".
- عيّن "محمود سامي البارودي" (أحد الضباط المصريين) وزيراً للحربية في فبراير ١٨٨١.
شعر الضباط بقوتهم، وبدأوا في تقديم مطالب فئوية لتحسين أوضاعهم (صرف بدل نقدي، عدم خصم المرتبات، أن يدفع العسكريون نصف أجرة السكك الحديدية). وقد استجاب الخديوي لمعظم هذه المطالب.
تصاعد قوة العرابيين (مطالب مايو وحادثة يوليو ١٨٨١)
بعد نجاحهم في قصر النيل، شعر الضباط بالثقة وبدأوا في تقديم مطالب جديدة في مايو ١٨٨١.
مطالب مايو ١٨٨١
طالب الضباط بمطالب عسكرية وسياسية، تمثلت في:
- زيادة عدد الجيش إلى ١٨ ألف جندي (حسب فرمان ١٨٤١ الذي أُهمل).
- إنشاء حصون عسكرية جديدة.
- المطلب الأخطر: تكوين "مجلس نواب" (برلمان) تكون الوزارة مسؤولة أمامه.
أثبت هذا المطلب الأخير "توحد حركة الجيش مع الحركة المدنية" (مطالب الأعيان) ضد نظام الحكم.
حادثة يوليو ١٨٨١ (حادثة قَصْر الصدمة)
في يوليو ١٨٨١، صدمت عربة أحد الأوروبيين جندياً مصرياً في الإسكندرية وقتلته. حمل زملاء الجندي القتيل إلى سراي الخديوي (برأس التين)، وطالبوا بالقصاص من الجاني.
رفض الخديوي هذه المطالب، وقرر معاقبة الجنود المتظاهرين بنفيهم إلى السودان. لكن وزير الحربية "البارودي" رفض التوقيع على القرار، فاستاء الخديوي وقدم البارودي استقالته.
عيّن الخديوي صهره "داود باشا يكن" وزيراً للحربية، والذي بدأ في التضييق على الضباط ومنعهم من الاجتماعات.
ذروة الثورة: مظاهرة عابدين الثانية (سبتمبر ١٨٨١)
أدت سياسات الخديوي ووزيره "داود باشا" إلى اتفاق بين عرابي وزملائه على حشد الجيش لمواجهة الخديوي توفيق في ميدان عابدين في ٩ سبتمبر ١٨٨١، ورفع "مطالب الجيش والأمة".
مطالب مظاهرة عابدين
قدم عرابي للخديوي ثلاثة مطالب رئيسية:
- عزل وزارة "رياض باشا" المستبدة.
- تشكيل مجلس نواب على النسق الأوروبي.
- زيادة عدد الجيش إلى ١٨ ألف جندي.
وزارة شريف باشا (سبتمبر ١٨٨١)
بناءً على نصيحة القنصلين (الإنجليزي والفرنسي) بامتصاص غضب الضباط، وافق الخديوي على المطالب، وقام بعزل رياض باشا، وتكليف "شريف باشا" بتأليف الوزارة.
بدأ شريف باشا، وهو رجل مدني دستوري، في إجراء إصلاحات مناسبة للجيش، فقام بتعيين "محمود سامي البارودي" وزيراً للحربية، و"مصطفى فهمي" وزيراً للخارجية (بناءً على توصية عرابي).
لكن شريف كان مرتاباً من ضغط العسكريين، فحاول إبعادهم عن القاهرة، فوافق عرابي على نقله هو وفرقته إلى "الشرقية"، ووافق عبد العال حلمي على نقله إلى "دمياط".
بدأ شريف أيضاً في إعداد "مجلس النواب" (البرلمان)، الذي ضم الأعيان وخلا من التجار أو الصناع أو المتعلمين.
التدخل الأجنبي (المذكرة المشتركة الأولى - يناير ١٨٨٢)
أدى قيام نظام برلماني في مصر إلى إزعاج إنجلترا وفرنسا، لأنهما رأتا في هذا المجلس خطراً على مصالحهما (الديون وقناة السويس).
المذكرة المشتركة الأولى (يناير ١٨٨٢)
أرسلت إنجلترا وفرنسا مذكرة مشتركة للخديوي، تعبران فيها عن استيائهما من قيام نظام برلماني، وتعلنان صراحة أنهما ستتدخلان لحماية عرش الخديوي.
النتائج:
- احتج "شريف باشا" رسمياً على المذكرة.
- استاء الضباط (العرابيون) من لهجة المذكرة، واعتقدوا أنها موجهة لهم.
- فشلت إنجلترا وفرنسا في إقناع مجلس النواب برفض مناقشة الميزانية، حيث أصر النواب على حقهم في إقرار الميزانية (لأنها أمور تتعلق بالديون).
استقالة شريف وتولي البارودي (وزارة الثورة)
أمام إصرار الطرفين (النواب على مناقشة الميزانية، والأجانب على رفض ذلك)، قدم شريف باشا استقالته.
وتألفت وزارة جديدة برئاسة "محمود سامي البارودي" وعُرفت بـ "وزارة العرابيين" أو "وزارة الثورة"، حيث عُين فيها "أحمد عرابي" وزيراً للحربية.
قامت هذه الوزارة بإعلان الدستور (فبراير ١٨٨٢) وأقرّت حق مجلس النواب الكامل في مناقشة الميزانية.
مؤامرة الشراكسة والمذكرة المشتركة الثانية (أبريل - مايو ١٨٨٢)
أثناء تولي وزارة البارودي، دبر بعض الضباط "الشراكسة" (ذوي الأصول التركية) مؤامرة لاغتيال "أحمد عرابي" والضباط الوطنيين، بهدف الإطاحة بالوزارة وإعادة السيطرة على الجيش.
نتائج المؤامرة
تم اكتشاف المؤامرة، وأُجري التحقيق مع المتآمرين. صدر الحكم عليهم بـ "التجريد من الرتب العسكرية والنياشين" و "النفى المؤبد إلى السودان".
لكن الخديوي توفيق، بتحريض من القنصلين (الإنجليزي والفرنسي)، رفض التصديق على الحكم، مما زاد من حدة التوتر بينه وبين وزارة البارودي.
المذكرة المشتركة الثانية (مايو ١٨٨٢)
انتهزت إنجلترا وفرنسا الفرصة وأرسلتا قطعاً من أسطولهما إلى الإسكندرية بحجة حماية رعاياهما، وقدمتا "المذكرة المشتركة الثانية".
طالبت المذكرة بـ:
- إقالة وزارة البارودي.
- نفي أحمد عرابي خارج مصر.
رفضت الوزارة الاستقالة، وقدم البارودي استقالته احتجاجاً على قبول الخديوي للمذكرة. شكّل توفيق الوزارة بنفسه برئاسته (للمرة الثانية)، وعيّن عرابي وزيراً للحربية والبحرية (تحت ضغط الضباط).
الطريق إلى الاحتلال (مذبحة الإسكندرية ومؤتمر الأستانة)
أصبحت البلاد الآن بلا وزارة، وفي حالة فوضى، والخديوي في الإسكندرية تحت الحماية الأجنبية، والأسطول الإنجليزي والفرنسي في الميناء.
مذبحة الإسكندرية (يونيه ١٨٨٢)
وقعت حادثة مدبرة في الإسكندرية، حيث تشاجر رجل مالطي (من رعايا بريطانيا) مع مكاري (عربجي) مصري حول أجرة الركوب. تطورت المشاجرة وانتهت بطعن المالطي للمصري وقتله، فنشبت معارك متبادلة بين الأجانب والمصريين.
كان يبدو واضحاً أن الحادث مدبر، حيث أن الجولة التي أخذها المالطي كانت كبيرة وبأجرة قليلة. أدت المذبحة إلى اضطراب الأمن، وتألفت وزارة جديدة برئاسة "راغب باشا".
مؤتمر الأستانة (يونيه ١٨٨٢)
أدركت فرنسا أن إنجلترا تنوي الانفراد باحتلال مصر، فدعت الدول الكبرى لعقد مؤتمر في "الأستانة" (عاصمة الدولة العثمانية) لبحث المسألة المصرية.
أبرم المشاركون "ميثاق النزاهة"، وتعهدوا فيه بـ "ألا تنفرد إحداها بعمل تجاه المسألة المصرية ... دون أن تتمتع به كافة الدول".
لكن المندوب البريطاني أضاف عبارة "إلا إذا حدث ما يؤدي إلى ذلك..." (إلا للضرورة القصوى)، وهي العبارة التي كشفت نوايا إنجلترا الاستعمارية، حيث كانت تخلق الذريعة لاحتلال مصر.
الاحتلال البريطاني لمصر (يوليو ١٨٨٢)
خلقت إنجلترا الذريعة التي أرادتها، فادعت أن الحكومة المصرية تقوم بتحصينات في الإسكندرية وتهدد بوارجها الراسية في الميناء.
ضرب مدينة الإسكندرية (١١ يوليو ١٨٨٢)
أعلنت إنجلترا الموقف الاضطراري، وقامت بضرب مدينة الإسكندرية.
النتائج:
- اضطرب الموقف وفُهزم الجيش المصري في الإسكندرية.
- احتلت إنجلترا المدينة، وحاصرت قصر الخديوي (الذي كان في الإسكندرية).
- انسحب عرابي بقواته إلى "كفر الدوار" لإقامة خط دفاع ثانٍ.
- انسحب الأسطول الفرنسي من الشواطئ وترك إنجلترا وحدها.
موقف الخديوي (الخيانة)
انضم الخديوي توفيق إلى الإنجليز، وربط مصيره بمصيرهم.
عندما طلب عرابي من الخديوي عدم التوقف عن الاستعدادات الحربية وأمره بالحضور إلى كفر الدوار، رفض الخديوي أوامر عرابي ووجه له تهمة الخيانة العظمى.
قام الخديوي بإصدار منشور يُحذر فيه المصريين من الانضمام إلى عرابي، واعتبره "حامي حمى الديار المصرية"، واعتبر بقاءه في الإسكندرية تواطؤاً مع الإنجليز. وبذلك، فقد عرابي شرعيته في المقاومة.