شرح درس العقوبة والتدابير الاحترازية | علم العقاب
العقوبة والتدبير الاحترازي
قدمنا أن أساس تطبيق العقوبة هو توافر الخطأ لدى الجاني، بينما يستند التدبير الاحترازي إلى الخطورة الإجرامية الكامنة في شخصه. والسؤال الذي يثار هنا هو مدى جواز الجمع بين العقوبة والتدبير باعتبار أن لكل منهما مجاله. فماذا لو اجتمعت الخطورة الإجرامية مع الأهلية الجنائية لدى مجرم واحد؟
أساس المشكلة: الحالات المنفصلة
بداية يمكننا القول أنه لا محل للتساؤل عن الجمع بين العقوبة والتدبير الاحترازي في الحالتين الآتيتين:
الحالة الأولى
إذا لم يكن المجرم أهلاً للمسئولية الجنائية، ولكن تكشف جريمته عن وجود خطورة إجرامية لديه، وفي هذه الحالة، لا توقع العقوبة على الجاني وإنما يتخذ في مواجهته التدبير الاحترازي المناسب.
ومثال تلك الحالات التي يتوافر فيها مانع من موانع المسئولية الجنائية كالجنون أو صغر السن.
الحالة الثانية
إذا توافرت الأهلية الجنائية للجاني ولكن لم تتوافر الخطورة الإجرامية؛ في هذه الحالة تتوافر الخطيئة فحسب دون الخطورة الإجرامية، فيحكم عليه بالعقوبة وحدها دون التدبير الاحترازي.
المشكلة الحقيقية
المشكلة الحقيقية التي نحن بصدد الحديث عنها تثور عندما تجتمع الخطيئة الجنائية مع الخطورة الإجرامية لدى مجرم واحد، ففي هذه الحالة هل تطبق العقوبة باعتبار أن الأهلية الجنائية متوافرة وكذلك الخطأ الجنائي؟ أم نطبق التدبير الاحترازي باعتبار أن الخطورة الإجرامية متوافرة؟
اختر - إذا ارتكب شخص مجنون (فاقد الأهلية) جريمة تكشف عن خطورة إجرامية، فالإجراء المتخذ هو:
(أ) تطبيق العقوبة فقط. (ب) تطبيق التدبير الاحترازي فقط. (ج) تطبيق العقوبة والتدبير معاً. (د) لا يطبق عليه شيء.
الإجابة: (ب) تطبيق التدبير الاحترازي فقط. (لأنه غير أهل للمسئولية الجنائية ولكن خطورته موجودة).
الاتجاه الأول: جواز الجمع بين العقوبة والتدبير
انقسم الفقه الجنائي عند الإجابة على التساؤل السابق إلى عدة اتجاهات. الاتجاه الأول يرى إمكان الجمع بين العقوبة والتدبير الاحترازي، والاتجاه الثاني يرفض فكرة الجمع بينهما. وبينما ذهب اتجاه ثالث إلى محاولة التوفيق بين الاتجاهين.
مبررات جواز الجمع
ذهب رأي إلى جواز الجمع بين العقوبة والتدبير الاحترازي بالنسبة لمجرم واحد، مستنداً في ذلك إلى اختلاف أساس كل منهما.
- فالعقوبة تكون مقابل خطأ المجرم، بينما التدبير يواجه خطورته الإجرامية.
- يترتب على ذلك أنه مادام توافر الخطأ لدى المجرم فإنه يجب أن توقع عليه العقوبة.
- وما دامت قد تحققت في شخصيته الخطورة الإجرامية فيجب أن ينزل به التدبير الاحترازي.
- فلا يوجد ما يمنع من الجمع بينهما مادام قد اجتمع لدى المجرم الخطيئة والخطورة.
و لكن الصعوبة التي تواجه الجمع بين النوعين من الجزاء الجنائي تكمن في تحديد الجزاء الذي ينبغي أن يوقع أولاً على الجاني في حالة ما إذا كان تنفيذهما معاً أمر مستحيل، كما هو الحال بالنسبة للعقوبات والتدابير السالبة للحرية.
المؤتمرات الدولية
وقد ذهب أول مؤتمر للاتحاد الدولي للقانون الجنائي الذي عقد في بروكسل (Bruxelles) سنة ١٩١٠ إلى أنه "يجب أن تنفذ العقوبة أولاً ثم بعد ذلك تنفذ تدابير الإصلاح والعلاج والأمن". بينما ذهب رأي آخر إلى أن الأولوية تكون للتدبير الاحترازي.
وتأخذ بعض التشريعات بخطة البدء بتنفيذ العقوبة أولاً ثم التدبير الاحترازي، مثال ذلك ما ينص عليه القانون الإيطالي (المادة ٢٠) من أن إيداع المحكوم عليه في إحدى دار العلاج والتهذيب ينفذ بعد انتهاء تنفيذ العقوبة المقيدة للحرية.
علل: لماذا يرى الاتجاه الأول جواز الجمع بين العقوبة والتدبير الاحترازي؟
الإجابة: لأنه يستند إلى اختلاف أساس كل منهما؛ فالعقوبة تقابل "الخطأ" (الجريمة الماضية)، بينما التدبير الاحترازي يواجه "الخطورة الإجرامية" (الخطر المستقبلي)، ومادام كلاهما (الخطأ والخطورة) قد اجتمعا لدى المجرم، فلا مانع من الجمع بين الجزاءين.
الاتجاه الثاني: رفض الجمع بين العقوبة والتدبير
يرفض أصحاب هذا الاتجاه فكرة الجمع بين العقوبة والتدبير الاحترازي بالنسبة لمجرم واحد، وحجتهم في ذلك أن هذا النظام له مساوئ متعددة، ومنتقد من عدة وجوه.
أهم الانتقادات الموجهة لنظام الجمع
- أولاً: يهدم نظام الجمع بين العقوبة والتدبير مبدأ «وحدة الشخصية الإنسانية»، حيث يقوم بتجزئة شخصية المجرم إلى جزأين: جزء خاص بالخطيئة يقرر لها جزاء مناسب، وجزء آخر خاص بالخطورة الإجرامية يخصها لتدبير. وهو ما يعني خضوع الشخص الواحد لنظامين مختلفين، كما لو كان ذلك في مواجهة شخصين مختلفين.
اختر - الانتقاد الأساسي الذي يوجهه الاتجاه الثاني (الرافض للجمع) هو أن نظام الجمع:
(أ) يقدم العقوبة على التدبير. (ب) يقدم التدبير على العقوبة. (ج) يقوم بتجزئة شخصية المجرم إلى جزأين (خطيئة وخطورة) ويعامله كشخصين. (د) أنه نظام قديم من مؤتمر بروكسل ١٩١٠.
الإجابة: (ج) يقوم بتجزئة شخصية المجرم إلى جزأين (خطيئة وخطورة) ويعامله كشخصين.
تابع: انتقادات الاتجاه الرافض للجمع
يستكمل هذا الاتجاه انتقاداته لنظام الجمع، مركزاً على مشكلة الترتيب والتطبيق العملي.
ثانياً: الترتيب في التنفيذ
أن الترتيب الذي يتبع في تنفيذ العقوبة والتدبير لا يخلو من العيوب:
- فإذا ما بدأنا بتنفيذ التدبير المذنب (التدبير) يحتمل أن يفسد تنفيذ العقوبة ما حققه التدبير من علاج.
- كما أن هذا النظام الأخير لا يتيح معرفة على وجه اليقين متى يبدأ تنفيذ العقوبة حيث أن التدبير غير محدد المدة.
- وإذا ما بدأنا بتنفيذ العقوبة، فإنه إذا كان المجرم يعاني من شذوذ مرضي فقد تزيد العقوبة من حالته المرضية.
- كما أن تنفيذ العقوبة أولاً قد يجعل التدبير بعد ذلك من شذوذ مرضي (يجب أن تكون "غير ذي موضوع" أو "غير ضروري")، وذلك إذا أصلحت العقوبة المجرم وجعلت علاجه بعد ذلك غير ضروري.
ثالثاً: المنطق التطبيقي
التطبيق العملي لنظام الجمع بين العقوبة والتدبير كشف عن عيوب كثيرة في التطبيق جعلت بعض التشريعات تعدل عنه.
وقد رفضت المؤتمرات الدولية مبدأ الجمع بين العقوبة والتدبير بالنسبة لشخص واحد.
علل: لماذا يُعتبر البدء بتنفيذ "العقوبة" أولاً مشكلة في نظام الجمع؟
الإجابة: لأن تنفيذ العقوبة (مثل السجن) أولاً قد يؤدي إلى إصلاح المجرم وتهذيب سلوكه، وعند انتهاء مدة العقوبة، يصبح "التدبير الاحترازي" (الذي كان يهدف لمواجهة خطورته) غير ضروري أو غير ذي موضوع، لأن الخطورة لم تعد قائمة.
التوفيق بين الاتجاهين
يرى أنصار هذا الرأي أنه لا توجد حاجة تدعو إلى الجمع بين النظامين معاً؛ فبالرغم من وجود اختلاف بين العقوبة والتدبير الاحترازي، إلا أنه يوجد ثمة تقارب بينهما - خاصة فيما يتعلق بتحقيق الردع الخاص، بمعنى التأهيل.
مبدأ التقارب والاكتفاء بأحدهما
يسمح بالاكتفاء بأحدهما دون الآخر لتحقيق أهدافهما معاً، دون تعريض السياسة الجنائية للخطر، وهذا ما يسمح بإمكانية توقيع أحدهما فقط دون الآخر وتحقيق أغراضهما معاً في ذات الوقت.
تصور الفقهي الإيطالي (DE ASUA)
وقد وضع الفقيه الإيطالي DE ASUA تصوراً لذلك حيث ذهب إلى إمكان الاكتفاء بالتدبير دون العقوبة في حالة ما إذا كانت خطورة الجاني أشد من خطيئته.
كمثال: حالة المتشرد، أو العاهرة التي ترتكب جريمة بسيطة، وتوحي ظروف حياتها إلى احتمال إقدامها على ارتكاب جريمة أخرى أشد جسامة من الجريمة الأولى.
أما إذا كانت خطيئته أشد من خطورته، فيمكن الاقتصار على توقيع العقوبة، ولو كانت ظروف حياته توحي باحتمال إقدامه على ارتكاب جريمة تالية.
اختر - حسب تصور "DE ASUA" للتوفيق، إذا ارتكب شخص (مثل متشرد) جريمة "بسيطة جداً" ولكن ظروفه توحي "بخطورة إجرامية عالية" للمستقبل، فالإجراء هو:
(أ) الاكتفاء بالعقوبة (لأن الجريمة بسيطة). (ب) الاكتفاء بالتدبير (لأن الخطورة أشد من الخطيئة). (ج) الجمع بين العقوبة والتدبير. (د) رفض العقوبة والتدبير.
الإجابة: (ب) الاكتفاء بالتدبير (لأن الخطورة أشد من الخطيئة).