الجزاء المدني والجزاء الإداري (الإلغاء - البطلان - الفسخ) | مدخل العلوم القانونية
صور الجزاء المدني (الإلغاء، البطلان، الفسخ) والجزاء الإداري
في هذا الدرس، نستكمل ما بدأناه في الدرس السابق حول صور الجزاءات. بعد أن درسنا الجزاء الجنائي والتنفيذ العيني والتعويض (الجزاء المدني المباشر وغير المباشر)، نتعمق الآن في الصور الأخرى للجزاء المدني، وهي "جزاء الإلغاء" بصوره الثلاث (البطلان، الفسخ، عدم النفاذ)، ثم ننتقل إلى نوع رئيسي آخر وهو "الجزاء الإداري".
III. جزاء الإلغاء:
تعريف جزاء الإلغاء:
35. يمكن تعريف جزاء الإلغاء "la restitution" بأنه: "العمل القانوني الذي يلجأ إليه أحد المتعاقدين في عقد من العقود أو كل من له مصلحة في تصرف قانوني طالباً إلغاء هذا العقد أو ذلك التصرف، إما لأنه - أي العقد أو التصرف - لم يتوافر فيه الأركان أو الشروط القانونية عند نشأته، أو لأنه قد نشأ صحيحاً مستوفياً أركانه وشروطه ولكن أحد المتعاقدين رفض تنفيذ التزاماته المترتبة عليه".
وكما هو واضح من هذا التعريف فإن هذا النوع من أنواع الجزاءات المدنية يقتصر توقيعه فقط على العقود دون الأعمال المدنية.
صور جزاء الإلغاء:
36. ويمكننا التمييز في هذا النوع من أنواع الجزاءات المدنية بين ثلاث صور تختلف من حيث جسامتها بحسب طبيعة العيب أو الخلل الذي شاب التصرف القانوني أو العقد ووقت تحققه، وذلك على التفصيل الآتي:
البطلان:
-
البطلان (la nullité):
هو "الجزاء المترتب على وجود عيب في التصرف القانوني أو العقد عند إبرامه أو إنشائه"، ويتنوع البطلان بدوره بحسب مدى جسامة العيب الذي شاب التصرف أو العقد إلى نوعين: بطلان مطلق، وبطلان نسبي.
فالبطلان المطلق (la nullité absolue):هو الجزاء المترتب على انعدام أو اختلال أحد أركان التصرف أو العقد وهي الرضا والمحل والسبب أو الشكل الذي تطلبه المشرع في بعض الأحيان، فالقانون يستلزم أولاً أن ينعقد رضاء طرفي التصرف أو العقد، كما يتطلب أيضاً أن يكون للتصرف القانوني أو العقد محل مشروع، أي غير مخالف للنظام العام أو الآداب، فإذا لم يتفق الطرفان مثلاً على بنود العقد ولم تتلاقى إرادتهما على هذا النحو، أو ورد التصرف أو العقد على محل غير مشروع كالمواد المخدرة أو إيجار بيتاً من بيوت الدعارة أو ما شابه ذلك، كان التصرف أو العقد باطلاً بطلاناً مطلقاً.
كما قد يتطلب القانون في بعض التصرفات أو العقود شكلاً معيناً، كبطلبه أن يتم تحرير عقد الرهن الرسمي وعقد الهبة للعقارات بصورة رسمية أمام الموثق بالشهر العقاري، فإذا ما تم الرهن أو الهبة دون مراعاة هذا الشكل الذي تطلبه القانون، وقع العقد باطلاً.
ويترتب على بطلان التصرف أو العقد بطلاناً مطلقاً في الأحوال السابقة وما ماثلها، أن يصير التصرف أو العقد هو والعدم سواء بسواء، فلا ينتج عنه أي أثر قانوني، ويعود المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل التعاقد، ويسترد كل منهما ما يكون قد أداه للطرف الآخر، وهو ما يسمى بالأثر الرجعي للبطلان.
كما يستطيع التمسك بالبطلان كل ذي مصلحة في التمسك به، وتستطيع المحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها، وفضلاً عن هذا فإن هذا النوع من البطلان لا يمكن أن يرد عليه الإجازة أو التقادم.
النوع الثاني من البطلان، وهو البطلان النسبي (la nullité relative):أو ما يطلق عليه أحياناً قابلية للإبطال، فهو جزاء أخف قليلاً من البطلان المطلق، إذ أنه لا يترتب نتيجة انعدام ركن من أركان التصرف أو العقد، وإنما يترتب نتيجة تخلف أحد شروط صحته. وشروط صحة التصرف أو العقد هي خلو إرادة كل من المتعاقدين من العيوب التي تتمثل في الغلط والتدليس والإكراه والاستغلال، وكمال أهلية المتعاقدين، فإذا شاب إرادة أحد المتعاقدين أو كليهما عيب من هذه العيوب أو كان أحدهما أو كلاهما ناقص الأهلية، كان التصرف أو العقد قابلاً للإبطال، أي باطلاً بطلاناً نسبياً.
والبطلان النسبي على خلاف البطلان المطلق لا ينتج عنه انعدام التصرف أو العقد كلية، وإنما ينتج هذا التصرف أو ذلك العقد آثاره القانونية منذ نشأته وحتى التمسك بالبطلان ممن له الحق في التمسك به، وهذا البطلان أيضاً على خلاف البطلان المطلق لا يجوز لكل من له مصلحة في التمسك به، وإنما يحق فقط لمن عيبت إرادته أو ناقص الأهلية أو نائبه القانوني أن يتمسك به وحده، أما غير ذلك من الأشخاص فلا يجوز له التمسك بالبطلان.
كما لا يجوز للمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها، فضلاً عن أن هذا النوع من البطلان يمكن أن يرد عليه الإجازة الصريحة أو الضمنية من جانب من له الحق في التمسك به، كما يرد عليه التقادم.
(سؤال للمقارنة):
ما هو الفرق الجوهري بين "البطلان المطلق" و "البطلان النسبي" من حيث: (1) السبب (2) من يحق له التمسك به (3) هل تقضي به المحكمة من تلقاء نفسها؟
الفسخ (la résolution):
-
الفسخ (la résolution):
الفسخ هو جزاء يترتب عدم تنفيذ أحد المتعاقدين لالتزامه الناشئ عن عقد من العقود "الملزمة للجانبين"، كعقد البيع والإيجار.
فهنا الجزاء، سواء البطلان بنوعيه، يترتب لأنه اختل شرط عند نشأة التصرف القانوني. فالعقد هنا، وكما سبق وأن بينا، قد نشأ صحيحاً مستوفياً لجميع أركانه وشروطه، وتترتب عليه جميع آثاره القانونية، ففي عقد البيع مثلاً، يلتزم البائع بتسليم المبيع ويلتزم المشتري بدفع الثمن، ولكن قد يتخلف أحد المتعاقدين عن تنفيذ التزامه، كأن يمتنع البائع عن تسليم المبيع للمشتري، أو أن يمتنع المشتري عن دفع الثمن للبائع.
ففي مثل هذه الأحوال وما ماثلها، أجاز القانون للطرف الآخر، بدلاً من أن يظل متمسكاً بالعقد ويطالب بالتنفيذ العيني أو التنفيذ بمقابل (التعويض)، أن يطالب بفسخ العقد، فإذا ما حكم القاضي بالفسخ، انحل العقد، وزالت كل الآثار المترتبة عليه، وعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل التعاقد، فيسترد المشتري ما قد دفعه من الثمن، ويسترد البائع المبيع إذا كان قد سلمه للمشتري.
ولربما على الحكم بالفسخ أن يعود المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل التعاقد، فالفسخ كجزاء يولد ذات الأثر الرجعي المترتب على البطلان، فيسترد كل متعاقد ما كان دفعه للطرف الآخر أثناء سريان العقد.
(اختر الإجابة الصحيحة):
يحدث "البطلان" بسبب عيب عند نشأة العقد، أما "الفسخ" فيحدث بسبب:
(أ) عيب عند نشأة العقد أيضاً.
(ب) عدم تنفيذ أحد الطرفين لالتزامه بعد نشأة العقد صحيحاً.
(ج) تدخل طرف ثالث في العقد.
عدم النفاذ في مواجهة الغير:
-
عدم النفاذ في مواجهة الغير:
نفترض هذه الصورة من صور الجزاءات المدنية أن التصرف القانوني أو العقد قد نشأ صحيحاً بين طرفيه مستكملاً كافة شروطه وأركانه، ولكن ذلك هذا التصرف أو ذلك العقد صحيحاً بين طرفيه، منتجاً جميع آثاره القانونية، غير أنه لا يكون نافذاً (l'inopposabilité) في مواجهة الغير.
أي بين شخص آخر غير المتعاقدين. نتيجة تخلف شرط قانوني يتطلبه القانون، فقد يشترط القانون نفاذ العقد في مواجهة الغير تسجيله، أو قيده، أو اتخاذ إجراءات معينة لنشر التصرف أو العقد.
وتتعلق الحكمة التي يستطيع المتعاقدين الآخرين، وهما لم يعلم به، فإذا لم يتم اتخاذ هذا الإجراء، ظل التصرف أو العقد صحيحاً بين المتعاقدين، ولا يمكن الاحتجاج به في مواجهة الغير، ولا يسري عليه.
والمثال على ذلك، كثرة في القانون في تخصيص، نذكر منها على سبيل المثال أن القانون يشترط لإمكان الاحتجاج برهن الرهن الرسمي على العقار في مواجهة الغير أن يتم قيده في السجلات (الشهر العقاري).
ولكن حتى يمكن من يتعامل على العقار المرهون من معرفة هذا الرهن، فيدخل على بصيرة من أمره أو يتعامل عليه وهو على علم به، فإذا لم يتم قيد الرهن الرسمي في سجلات الشهر العقاري، فإن التصرف ذاته، وهو الرهن، يظل صحيحاً بين طرفيه الدائن المرتهن والراهن، ويرتب عليه كل آثاره فيما بينهما فحسب، أما في مواجهة الغير، وهو كل شخص غير المتعاقدين، فإن الرهن لا يمكن أن يسري في حقه أو يُحتج به عليه.
ومن هذا يتضح لنا الفارق بين عدم النفاذ والبطلان، فالبطلان جزاء يؤدي إلى انعدام التصرف أو العقد وزوال كل آثاره واعتباره كأن لم يكن، فلا يمكن الاحتجاج به، بعد القضاء ببطلانه، لا فيما بين طرفيه (المتعاقدين) ولا في مواجهة غيرهم، أما عدم النفاذ فيقتصر أثره على عدم إمكان الاحتجاج بالتصرف أو بالعقد على الغير، على الرغم من صحته وإنتاجه لجميع آثاره فيما بين طرفيه.
(سؤال توضيحي):
ما معنى "عدم النفاذ في مواجهة الغير"؟ وما هو المثال الذي ذكره النص (بخصوص الرهن الرسمي)؟
(ج) الجزاء الإداري:
1. تعريف الجزاء الإداري:
37. يمكن تعريف الجزاء الإداري "la sanction administrative" على أنه: "الجزاء الذي يترتب على مخالفة قواعد القانون الإداري، وهي تلك القواعد القانونية التي تكفل حسن سير العمل بالجهاز الإداري بالدولة وتنظم المرافق العامة".
2. صور الجزاءات الإدارية:
38. إن من أبرز صور الجزاءات الإدارية هو ذلك الجزاء الذي يوقع على موظفي الدولة والعاملين بها نتيجة إهمالهم في أداء وظائفهم أو واجباتهم، وتتنوع الجزاءات الإدارية بحسب مدى جسامة المخالفة، فقد تتمثل في صورة اللوم أو الإنذار، وقد تتخذ شكل الحرمان من الترقية أو العلاوة أو جزء من المرتب، وقد يصل الجزاء إلى حد الفصل من الخدمة نهائياً.
ومن صور الجزاءات الإدارية أيضاً جزاء الإلغاء، وهو الجزاء الذي يوجه إلى قرار إداري مخالف لنصوص القانون فيعدمه.
فمن المقرر، وفقاً لأحكام القانون الإداري، أن من حق المضرور من قرار أصدرته أية جهة إدارية في الدولة أن يرفع دعوى أمام القضاء الإداري طالباً الحكم له بإلغاء القرار الإداري المخالف لنصوص القانون، فإذا حكم له، فما أراد انعدم القرار الإداري وانعدمت معه جميع آثاره القانونية في الماضي والمستقبل.
فعلى سبيل المثال، لو أن إحدى الكليات بالجامعة قررت إنهاء درجات الرأفة في عملية تصحيح كراسات الإجابة في امتحان معين، وكان قانون تنظيم الجامعات يعطي الحق للطلاب في هذه الدرجات، فإن من حق أي طالب منهم أن يرفع دعواه إلى القضاء الإداري طالباً إياه الحكم له بإلغاء هذا القرار حتى ولو بعد تصحيح كراسة إجابته، فإذا قضي له بإلغاء هذا القرار فإنه يصير منعدماً، ويعطى الطالب وغيره من الطلاب في فرقته درجات الرأفة وفقاً للقانون.
ومن الجدير بالذكر في النهاية أن نشير إلى أنه يمكن أن يجتمع أكثر من جزاء عن مخالفة واحدة ارتكبها شخص واحد. ومثال ذلك: إذا دهس شخص بسيارته أحد المارة مخالفاً قواعد المرور، فإنه يلتزم بتعويض المضرور (جزاء مدني)، وتوقع عليه عقوبة الحبس أو الغرامة (جزاء جنائي).
وكذلك في الحالة التي يرتكب الموظف العام فيها جريمة اختلاس لأموال الدولة، فإنه توقع عليه جزاء الحبس (جنائي)، ويُفصل من عمله (إداري).
(سؤال استنتاجي):
"يمكن أن يجتمع أكثر من جزاء عن مخالفة واحدة". اذكر المثال الذي ورد في النص ووضح أنواع الجزاءات فيه.